الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما كونه فرض كفاية: فلأنه أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، وهما واجبان كفائيان. قال بعضهم:«القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة» (1)، وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود:«لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إليّ من عبادة سبعين سنة» .
المبحث الثاني ـ شروط القاضي:
اتفق أئمة المذاهب على أن القاضي يشترط فيه أن يكون عاقلاً بالغاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً ناطقاً، واختلفوا في اشتراط العدالة، والذكورة، والاجتهاد (2).
أما العدالة: فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية فاسق ولا من كان مرفوض الشهادة لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات:6/ 49] فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ، فلأن لا يكون قاضياً أولى. والعدالة تتطلب اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، وسلامة العقيدة، والمحافظة على المروءة، والأمانة التي لا اتهام فيها بجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرة عنها من غير وجه شرعي.
وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، حتى لو عين الإمام قاضياً صح قضاؤه للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادة الفاسق، لكن لو قبلها منه جاز، وفي الحالتين:(قضاء وشهادة) يأثم من يعينه للقضاء ومن يقبل شهادته.
(1) اللباب شرح الكتاب للميداني: 4 ص 77.
(2)
البدائع: 3/ 7، الدسوقي: 129/ 4، بداية المجتهد: 449/ 2، مغني المحتاج: 375/ 4، البجيرمي على الخطيب: 318/ 4، المغني: 39/ 9.
أما المحدود في القذف: فلا يعين قاضياً كما لا تقبل شهادته عند الحنفية كبقية الأئمة؛ لأن القضاء من باب الولاية، وبما أن هذا المحدود لا تقبل شهادته وهي أدنى الولايات، فعدم تعيينه قاضياً أولى.
وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند غير الحنفية، فلا تولى المرأة القضاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1)، ولأن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والخبرة بشؤون الحياة، والمرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، بسبب ضعف خبرتها واطلاعها على واقع الحياة، ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال بعداً عن الفتنة، وقد نبه الله تعالى على نسيان المرأة، فقال:{أن تضل إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/ 2] ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يولِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد.
وقال الحنفية: يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال أي في القضاء المدني؛ لأنه تجوز شهادتها في المعاملات، ويأثم المولي لها للحديث السابق:«لن يفلح .. » أما في الحدود والقصاص أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه لا شهادة لها فيه، ومن المعلوم أن أهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة.
وقال ابن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماً على الإطلاق في كل شيء، لأنه يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية.
وأما الاجتهاد: فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية
(1) رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة (المقاصد الحسنة للسخاوي: ص 340، نيل الأوطار: 8 ص 263، سبل السلام: 4 ص 123، تلخيص الحبير: 4 ص 184).
كالقدوري (1)، فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية، ولا المقلد:(وهو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته) لأنه لا يصلح للفتوى، فلا يصلح للقضاء بالأولى؛ لأن الله تعالى يقول:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] ولم يقل بالتقليد للآخرين، وقال سبحانه:{لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4] وقال عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4] وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة، ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (2) فالعامي يقضي على جهل.
ويلاحظ أن اشتراط وصف الاجتهاد عند المالكية: هو الذي عليه عامة أهل المذهب، لكن المعتمد والأصح عندهم أنه يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد (3).
وأهلية الاجتهاد: تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة، ومعرفة الإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب، ولا يشترط أن يكون الفقيه محيطاً بكل القرآن والسنة، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة، ولا أن يكون مجتهداً في كل المسائل، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع البحث (4).
(1) اللباب في شرح الكتاب أي كتاب القدوري: 4 ص 78. قال في الهداية: والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط أولوية. فأما تقلي الجاهل أي غير المجتهد فصحيح عندنا؛ لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره.
(2)
رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه. وقد علق عليه ابن تيمية بقوله: «وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً» (نيل الأوطار: 263/ 8 ومابعدها، سبل السلام: 115/ 4، نصب الراية: 65/ 4، مجمع الزوائد: 195/ 4).
(3)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 129/ 4.
(4)
راجع التفصيل في كتابنا أصول الفقه: ص 1044/ 2 ومابعدها، ط دار الفكر.
وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي مجتهداً، والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب، فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره أي بتقليد مجتهد؛ لأن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد، لكن مع هذا قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي الجاهل بأدلة الأحكام الشرعية تفصيلاً واستنباطاً؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به.
وبصرف النظر عن هذا الخلاف فإن الواقع له مكان وأهمية، قال الإمام الغزالي: اجتماع هذه الشروط من العدالة والاجتهاد وغيرهما متعذر في عصرنا لخلو العصر من المجتهد والعدل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وإن كان جاهلاً فاسقاً (1).
وقال الشافعية: إذا تعذرت هذه الشروط، فولى سلطان له شوكة فاسقاً أو مقلداً نفذ قضاؤه للضرورة. وفي الجملة: إذا وجد اثنان كل منهما أهل للقضاء يقدم الأفضل في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من تولى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله، وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله، وجماعة المسلمين» (2).
(1) راجع البحث في البدائع: 3/ 7، فتح القدير: 453/ 5 وما بعدها، 485، مختصر الطحاوي: ص 332، الدر المختار ورد المحتار عليه: 312/ 4 وما بعدها، 318، بداية المجتهد: 449/ 2، الشرح الكبير للدردير: 129/ 4 وما بعدها، مغني المحتاج: 375/ 4 وما بعدها، المهذب: 290/ 2، المغني: 39/ 9 وما بعدها.
(2)
رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم وابن عدي وأحمد بن حنبل والعقيلي والخطيب البغدادي. وعن حذيفة بن اليمان أخرجه أبو يعلى الموصلي (نصب الراية: 62/ 4).