الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتغالب، ومندوب إلى الأخذ بالتعاطف والتناصف. فإن كانت المظالم مما تستأنف فيها الأحكام، ويبتدأ فيها القضاء، منع منه هذا الأمير؛ لأنه من الأحكام التي لم يتضمنها عقد إمارته، وردَّهم إلى حاكم بلده
…
» (1).
المبحث الرابع ـ صاحب الحق في التشريع
بناء على ما سبق يتبين أن لاحق لأحد سوى الله في التشريع بالمعنى الحقيقي، سواء أكان حاكماً أم طائفة معينة، أم الأمة نفسها؛ لأن إعطاء أحدهم صلاحية التشريع يجعله متأثراً بالمصالح والأهواء الخاصة، وترك مصلحة الأمة العليا. ويبدو لنا ذلك واضحاً بعد انفصال السياسة عن الدين، وجعل التشريع بيد المجالس النيابية، حتى لم نعد نشاهد نصراً حاسماً محرزاً، أو تقدماً إيجابياً صالحاً، أو نهضة حقيقية، بسبب إغفال أوامر الله تعالى، وعدم اجتناب نواهيه. ويؤكد القرآن الكريم على ترك الاختصاص التشريعي لله ولرسوله، قال الله تعالى:{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/ 33]{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلِّموا تسليماً} [النساء:4/ 65]{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63/ 24].
والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم أو عرض له قضاء عام أو خاص، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يكن في
(1) الأحكام السلطانية: ص 30.
الكتاب وعلم من سنة رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.
وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه، وبقية الصحابة، وأقرهم على هذه الخطة المسلمون (1). وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضياً بالإسلام إلى اليمن، فقال له الرسول: كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو (أي لا أقصر في الاجتهاد) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله (2). وروى مالك عن علي قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: اجمعوا العالمِين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد (3).
لكن الأمة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها هي التي تختار أولي الحل والعقد حسبما تقتضي تطورات الظروف الاجتماعية والاقتصادية (4)، فتكون إرادتها ممثلة بواسطة هؤلاء العلماء المتخصصين الذين اختارتهم، وقيدتهم بمبادئ الإسلام وأحكامه، وبالمصالح العامة فيما لا نص ولا إجماع فيه من الأمور الدنيوية والقضايا الاجتماعية المتجددة أو المتطورة.
(1) أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: 418/ 1، ط دار الفكر.
(2)
قال الشوكاني في إرشاد الفحول: ص 227: «وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة، كما أوضحت ذلك في مجموع مستقل» وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والبيهقي، وهو حديث مرسل في الأصح.
(3)
أعلام الموقعين: 73/ 1.
(4)
مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للأستاذ علال الفاسي: ص 215.
وهذا يعني أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيجب الرجوع إلى تشريعه أمراً ونهياً، وأما السيادة العملية فهي للأمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد. وحينئذ يجتمع هؤلاء في مكان مخصص لهم، بدلاً من الاجتماع في المسجد، كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس الأمة في عصرنا لمناقشة شؤون المسلمين، بشرط مراعاة أحكام وأسس التشريع الإسلامي فيما يصدرون من قوانين.
وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيراً أو قاضياً، فله الأخذ باجتهاده فيما لم يصادم إجماع المجتهدين، ويكون رأيه حينئذ ملزماً بصفته صاحب سلطة.
ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الاجتهاد باستجماع شروطه المقررة أصولياً وأهمها معرفة اللغة العربية ـ لغة القرآن والسنة، وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعة وفهم مقاصد الشريعة. ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للاجتهاد حتى تعرفه الأمة وترشحه لتمثيلها.
ومجال الاجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس، والصيام والزكاة والحج، وتحريم جرائم الزنى والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات والقتل وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقصاص، وزواج المحارم ونحوها.
وأما ما يصح الاجتهاد فيه: فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع (1). وعلى
(1) راجع أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: 1053/ 2، ط دار الفكر.
هذا فإن التشريعات الصادرة حديثاً التي لا تخالف الإسلام من قبل اللجان المشرِّعة، لا تخالف قواعد الاجتهاد في الفقه الإسلامي (1).
والخلاصة: أن الاجتهاد في الشريعة مقصور على استمداد الأحكام الشرعية من مصدرها الإلهي، والحاكم هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزماً، لا الأغلبية، أما السلطة التشريعية في الدول الحاضرة فإن لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد، وتأخذ في ذلك بمبدأ الأغلبية.
(1) السلطات الثلاث، المرجع السابق: ص 241.