الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة:
الرجوع عن الشهادة: أن يقول الشاهد: رجعت عما شهدت به، ونحوه، فلو أنكر شهادته بعد القضاء لا يكون رجوعاً، ولا يصح الرجوع إلا في مجلس القضاء؛ لأنه فسخ للشهادة، فيكون في المكان الذي تعتبر فيه الشهادة، وهو المحكمة، ولأن الرجوع توبة، والتوبة تكون بحسب الجناية: السر بالسر، والعلانية بالعلانية (1)، أي إذا كان الذنب سراً فالتوبة سرية، وإن كان علانية فالتوبة علانية.
وإذا لم يصح الرجوع عن الشهادة في غير المحكمة: فلو ادعى المشهود عليه رجوع الشاهدين أو أراد يمينهما أنهما لم يرجعا، لا يحلفان، وكذا لو أقام المشهود عليه بينة على هذا الرجوع، لا تقبل؛ لأنه ادعى رجوعاً باطلاً؛ إذ أنه في غير المحكمة، وإقامة البينة وإلزام اليمين لا تقبل إلا على دعوى صحيحة، بدليل أنه لو أقام البينة أن الشاهد رجع عند قاضي بلدة كذا، وحكم عليه بضمان المال، تقبل بينته.
وكذلك لا يصح الرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم من القاضي، وإذا رجع الشهود حينئذ، لم ينتقص الحكم الذي حكم بشهادتهما فيه، ولا يفسخه القاضي باتفاق العلماء، وإذا رجع الشهود قبل صدور الحكم، لم يحكم القاضي بشهادتهما، ويصح رجوعهما حينئذ؛ لأن الشهادة إخبار يحتمل الغلط.
ويترتب على الرجوع عن الشهادة بعد الحكم: أن الشهود يلتزمون بضمان الغرم أو التلف الذي تسببوا في إلحاقه بالمشهود عليه من مال أو دية باتفاق المذاهب
(1) هذا بعض حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، فقال: أوصني، فقال: عليك بتقوى الله تعالى ما استطعت. إلى أن قال: «وإذا عملت شراً، فأحدث توبة: السر بالسر، والعلانية بالعلانية» (فتح القدير: 87/ 6).
الأربعة على الراجح عند بعضهم، لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، فهم قد أخرجوا المال من يد المشهود عليه بغير حق، ويوزع الضمان بينهم، ولا ضمان عليهم إذا كان المشهود عليه قد استوفى عوضاً عما أتلف عليه. وإذا كانت الشهادة على حد زنا مثلاً، ثم رجع الشهود كلهم أو بعضهم، فيقام عليهم حد القذف (1). وتطبيقات هذه القاعدة تعرف عند الحنفية في المسائل الآتية (2):
ـ إذا شهد شاهدان على رجل بمال، وقضى القاضي به، وسلم المدعى عليه المال إلى المدعي، ثم رجع الشاهدان: ضمنا المال بينهما نصفين. ولو رجع أحدهما، غرم نصف المال، وبقي النصف الآخر ببقاء شاهد. ودليل الضمان أن الشاهدين تسببا بإتلاف مال المشهود عليه تعدياً، والتسبب سبب الضمان.
ـ لو كان الشهود أربعة، فرجع اثنان أو واحد منهم: فلا ضمان عليه، لبقاء المال للمشهود له ببقاء الشاهدين. ولو رجع منهم ثلاثة يلزمهم نصف المال المشهود عليه، لبقاء النصف، أي أنه ببقاء أحدهما يبقى نصف الحق عند الحنفية والشافعية. وأما عند الحنابلة: فيغرم الشاهد الذي رجع بقدر نسبته إلى عدد الشهود، فإن كانوا ثلاثة فرجع واحد، فعليه الثلث، وإن كانوا عشرة فعليه العشر.
ـ وإن شهد رجل وامرأتان على مال، فرجعت امرأة: غرمت ربع المال، ولو رجعتا غرمتا نصف المال، لبقاء نصف الحق ببقاء رجل، ومن المعلوم أن المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادات. وكذا يغرم الرجل نصف المال، إن رجع وبقيت المرأتان.
(1) المبسوط: 177/ 16، 2/ 17، 8، 16، فتح القدير: 85/ 6 وما بعدها، البدائع: 283/ 6 وما بعدها، الدر المختار: 412/ 4 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 72/ 4 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 359 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 207/ 4، مغني المحتاج: 456/ 4 وما بعدها، المهذب: 340/ 2، المغني: 248/ 9 وما بعدها.
(2)
مراجع الحنفية السابقة.
ـ ولو شهد رجل واحد، وعشر نسوة، على مال، ثم رجعوا جميعاً بعد صدور الحكم، فالضمان بينهم عند أبي حنيفة أسداساً، على الرجل سدس المال بحسب نسبته إلى عدد النسوة، وعلى النساء خمسة أسداس؛ لأن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة.
وقال الصاحبان: الضمان بينهما مناصفة، على الرجل النصف، وعلى النساء النصف؛ لأن النساء، وإن كثرن، لهن شطر الشهادة فقط.
ـ لو شهد اثنان على بائع ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر، وقضى القاضي به، ثم رجعا، لم يضمنا للمشهود عليه شيئاً، لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف بعوض قبضه بديلاً عن المبيع، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، وإن شهد الاثنان بأقل من قيمة المثل، ضمنا الجزء الناقص، لإتلافهما هذا الجزء بلا عوض.
ـ وكذا لو شهد اثنان على رجل أنه تزوج امرأة بمقدار مهر مثلهما، ثم رجعا: فلا ضمان عليهما، ولا يفسخ النكاح برجوعهما؛ لأن منافع البضع (أي محل الاستمتاع بالمرأة) غير متقومة عند الإتلاف، بعكس الأعيان المالية، وبما أن المنافع لاتتقوم فلا تضمن؛ لأن التضمين يتطلب المماثلة بين العوض والمعوض عنه، ولا مماثلة بين الأعيان التي تحرز وتتمول، وبين الأعراض التي تزول ولا تبقى، وإنما تتقوم منافع البضع على الزوج عند الدخول بالمرأة إظهاراً لخطورة محل الاستمتاع فقط، وحينئذ تعتبر شهادة الشاهدين مؤدية إلى إتلاف بعوض، وهو أن الشاهدين أثبتا للزوج البضع بمقابلة المال، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، كما ذكر، وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا، ضمنا الزيادة؛ لأنهما أتلفا الزيادة من غير عوض.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل: أنه طلق امرأته ثلاثاً، وقد دخل بها وأقر
الزوج بالدخول، وقضى القاضي بالفرقة، ثم رجع الشاهدان: لم يضمنا، إلا ما زاد على مهر المثل؛ لأنه بقدر مهر المثل إتلاف بعوض، وهو استيفاء منافع البضع، وإذا لم ننظر إلى معنى المعاوضة في الزواج، فلا ضمان أيضاً؛ لأن المهر يجب بنفس العقد عند الحنفية، ويتأكد بالدخول، لا بشهادة الشهود، فلم يترتب على الشهادة إتلاف، فلم يجب الضمان.
وإن كان الطلاق قبل الدخول، فقضى القاضي بنصف المهر إذا كان المهر مسمى في العقد، أو بالمتعة إذا لم يكن المهر مسمى، ثم رجع الشاهدان، فإنهما يضمنان للزوج نصف المهر في الحالة الأولى، والمتعة في الحالة الثانية؛ لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف شيء على الزوج دون أن يحصل في مقابله على عوض. ولا يقال: إن الحكم الصادر من القاضي أمر لا بد منه؛ لأن هذا هو حكم المهر أو المتعة قبل الدخول. لا يقال ذلك؛ لأنه بشهادة الشاهدين على الطلاق، تأكد الواجب في ذمة الزوج، فلم يعد محتملاً للسقوط بأن تحدث الفرقة من قبل المرأة.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل بإجارة داره سنة، والمستأجر ينكر، وقضى القاضي بالإيجار، ثم رجعا بعد استيفاء منفعة السكنى، فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل؛ لأنه بقدر أجر المثل حصل العوض، والباقي بغير عوض، فتكون شهادتهما مؤدية إلى إتلاف على المستأجر بقدر الباقي وهو الزيادة.
ـ ولو شهد اثنان على رجل أنه قال لامرأته: «إن دخلت الدار فأنت طالق» وشهد اثنان آخران بالدخول، ثم رجعوا بعد أن قضى القاضي بالفرقة، ضمن الشاهدان الأولان؛ لأن هذه شهادة على الطلاق، وهو إتلاف بغير عوض، فيضمنان؛ لأن الطلاق علة الحكم، ولا يجب على شهود الدخول شيء؛ لأن الدخول شرط.
ـ ولو شهد اثنان على رجل بسرقة نصاب (وهو عشرة دراهم عند الحنفية) فقضى القاضي بعد ادعاء المالك المسروق منه بقطع اليد، وقطعت يده، ثم رجع الشاهدان، يغرمان دية اليد.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل أنه قتل فلاناً خطأ، أو جرحه خطأ، وقضى القاضي بالعقوبة، ثم رجعا، ضمنا الدية؛ لأنهما أتلفاها عليه، وتكون في مالهما؛ لأن الشهادة منهما بمنزلة الإقرار منهما بالإتلاف، والعاقلة (أي عصبة القاتل) لاتعقل بالإقرار بالقتل.
ـ ولوشهد رجلان على آخر أنه قتل فلاناً عمداً، فقضى القاضي بالقصاص، واقتص منه أي قتل، ثم رجعا، لا يقتص منهما عند الحنفية، وهو ظاهر المدونة لمالك وقول ابن القاسم، وإنما يضمنان الدية في مالهما في ثلاث سنين؛ لأنهما معترفان، والعاقلة لا تعقل الاعتراف. والدليل على أنه لا يقتص منهما هو أنهما لم يباشرا القتل، بل ولم يوجد منهما ـ في تقدير الحنفية ـ تسبب بالقتل؛ لأن التسبب: ما يفضي إلى ما تسبب فيه غالباً، والشهادة لا تفضي إلى القتل
غالباً، وإن أفضت إلى القضاء به، وإنما كثيراً ما يقضى بالقتل، ثم يتوسط الناس في الصلح على الدية (1).
وقال الشافعية والحنابلة وأكثر أصحاب مالك (2): إذا رجع الشهود، وقد نفذ القصاص أو قتل الردة، أو رجم الزنا، أو الجلد أو القطع ومات المجلود أو المقطوع، وقال الشهود: تعمدنا الشهادة، فيقتص منهم، أو يلزمون بدية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسببهم في إهلاك المشهود عليه، وقتلهم نفساً ب
(1) فتح القدير: 95/ 6 وما بعدها، البدائع: 285/ 6، الشرح الكبير: 207/ 4.
(2)
مغني المحتاج: 457/ 4، المهذب: 340/ 2، المغني: 247/ 9.
غير شبهة، ولما روى الشعبي: أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم أتياه برجل آخر، فقالا: إنا أخطأنا بالأول، وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمنها دية الأول، وقال:«لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما» .
وإن قال الشاهدان اللذان رجعا: أخطأنا، فعليهما الدية مخففة في أموالهما عند الحنابلة، لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف، وعند الشافعية: عليهما نصف الدية، وعلى القاضي النصف الآخر، توزيعاً للدية على من باشر القتل ومن تسبب فيه.
ـ ولو شهد أربعة على رجل بالزنا، وشهد آخران عليه بأنه محصن، ثم رجعوا بعد إقامة الرجم: فضمان الدية على شهود الزنا، ولا يجب شيء على شهود الإحصان؛ لأن الزنا علة الحكم، والإحصان شرط، والحكم يضاف إلى العلة أو السبب لا إلى الشرط.
وأما بالنسبة لحد القذف: فإن رجع جميع الشهود يحدون حد القذف، سواء رجعوا بعد القضاء بالرجم أو قبل القضاء.
وإن رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم: فإنه يحد حد القذف،؛ لأن شهادته صارت قذفاً بإقراره، ويغرم ربع الدية، ويتحمل ثلاثة أرباع الدية الباقية الشهود الثلاثة الآخرون.
وإن رجع واحد من الشهود بعد قضاء الحاكم بالرجم وقبل إقامة الحد، فإنهم يحدون جميعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن رجوعه قبل إقامة الحد بمنزلة رجوعه قبل القضاء بالحد. وعند محمد: يحد الراجع وحده استحساناً؛ لأن كلام الشهود اعتبر شهادة بدليل القضاء بموجبه، فلا ينقلب قذفاً إلا بالرجوع، ولم