الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن أشخاص الحكام فيها، وكان يعد الحاكم بمثابة أمين على السلطة ونائباً عن الأمة (1). وهذا هو المعنى الذي يرمز إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة السياسية سندها لا في إنسان، ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام والاستقرار والاستقلال عن أشخاص الحكام أنفسهم (2).
ثالثاً ـ اتجاه تطور مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة:
4 - المبدأ أو الأصل الفقهي أن تكون دولة الإسلام أو دار الإسلام موحدة السياسة وشاملة لجميع الأقاليم الإسلامية، وذلك لتحقيق غاية الإسلام الأساسية: وهي قوة الإسلام والمسلمين بأن يكونوا جميعاً يداً واحدة، فيتجهون، اتجاهاً واحداً، وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع. وقد ظلت الخلافة أو الدولة الإسلامية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلاثة الأولى الهجرية، ثم تجزأت دار الإسلام خلافاً للمبدأ السابق، فقامت دول إقليمية في عهد الدولة العباسية، وانقسمت الخلافة العباسية إلى دويلات: في العراق نفسها، وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية، ثم فيما بعد في الأندلس، فظهرت في أسبانيا الدولة الأموية الثانية (317 - 423 هـ)، وقامت الخلافة الفاطمية (297 - 567 هـ)، في المغرب، ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين الله سنة
(1) ر: للتفصيل موضوع دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/20.
(2)
ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 24 وما بعدها. ومن المعلوم الآن أن من خصاص الدولة تمتعها بالشخصية المعنوية أو بالشخصية القانونية، ومن ثم فهي تلزم وتلتزم كالأشخاص الطبيعيين تماماً، ويترتب على الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية، علاوة على أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات تأكيد الانفصال بين الحاكم والسلطة، أي أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والاستقرار (ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها) وهذه المعاني سبق إليها الإسلام كما تقدم.
(362 هـ).
وهكذا وجدت في وقت واحد ثلاث خلافات إسلامية: خليفة عباسي في العراق، وخليفة أموي في الأندلس، وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلِّية، ثم مصر وقسم كبير من الشام (1).
وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة الإسلامية هو الفتنة الأولى أو الكبرى التي انتهت بمصرع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والفتنة الثانية التي انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته رضي الله عنهم في كربلاء.
وفي وسط هذا الاختلاف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الآراء وتعدد الفرق وانقسام المسلمين إلى دويلات، انقض التتر والمغول على الخلافة العباسية في بغداد، فأزالوا معالمها ثم استولوا على دمشق. ثم جاءت الدولة العثمانية، فاستولت على البلاد الإسلامية وعاصرت انسلاخ الأندلس وطرد المسلمين منها ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو، وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو المشترك أيام (ملوك الطوائف).
ثم ضعفت الدولة العثمانية: فانقض المستعمرون الغربيون على الأقاليم الإسلامية يتقاسمونها بينهم بالحماية أو الانتداب أو الوصاية مستفيدين من النُّعَرة الوطنية (2) وظل الحال كذلك إلى أن استقل معظم البلاد في وحدات اقليمية أو دويلات متعددة بنحو خمسين دولة إسلامية في الوقت الحاضر.
والخلاصة: إن مفهوم دار الإسلام اتجه خلافاً للمبدأ الإسلامي نحو التجزؤ
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 292، ط مصطفى محمد، الشرع الدولي في الإسلام للدكتور نجيب الأرمنازي: ص 158، مقدمة كتاب السياسة لأبي القاسم المغربي: ص 28.
(2)
الكلام عن مآسي الاستعمار الغربي في هذا الصدد يتسع لمؤلف ضخم، وقد شاهد جيلنا الحاضر الكثير من ويلاته بتجزئة الإقليم الواحد إلى أوطان متعددة خاضعة تحت نفوده، وبذر بذور الفتن والتفرقة بين الإخوة عملاً بقاعدة (فرق تسد).
والانقسام في واقع الحياة الإسلامية مما أدى إلى ضعف دولة الإسلام. وبسط نفوذ المتسلطين عليها، ومعاناة مختلف أشكال الاستعمار القديم والجديد.
5 -
وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس الإقليمية الضيقة، دأبت على توفير أو استكمال خصائصها أوعناصرها: وهي النظام (1) والسيادة (2)
والشخصية القانونية (3).
(1) النظام: معناه ائتمار الجماعة بأمر فئة منها وخضوعها لقراراتها. أو بعبارة أخرى: وجود طبقة من الحكام وأخرى من المحكومين. وهذا في الحقيقة هو المظهر الداخلي لسيادة الدولة وسلطانها (راجع موجز القانون الدستوري للأستاذين عثمان خليل والطماوي: ص 14).
(2)
السيادة: وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، ومقتضاها أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسمو عليها شيء، ولاتخضع لأحد، ولكن تسمو فوق الجميع، وتفرض نفسها على الجميع. ومقتضاها أيضاً أن سلطة الدولة سلطة أصيلة، أي لا تستمد أصلها من سلطة أخرى. وللسيادة وجهان: سيادة خارجية، وسيادة داخلية. الأولى خاصة بالعلاقات الخارجية بين الدول، ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة الخارجية لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، ومن ثم فالسيادة الخارجية مراد فة للاستقلال السياسي، وذلك يتوفر باعتراف الجماعة الدولية بها، فهي ذات دور سلبي محض. وأما السيادة الداخلية أوالنظام كما ذكرت فلها معنى إيجابي مضمونه أن الدولة تتمتع بسلطة عليا على جميع الأفراد والهيئات الموجودة على إقليمها، وأن إرادتها تسمو على إرادتهم جميعاً، أي أن سيادة الدولة الكاملة تعني استقلالها الخارجي، وسمو سلطانها في الداخل، وهذا يدل على أنه لا دولة بدون سيادة، وقد حل محل هذه الكلمة في العرف الحديث لفظة (استقلال الدولة) (راجع ثروت بدوي: 40/ 1 - 43، حافظ غانم: ص 13، المرجعان السابقان). ويمكن القول بوجود أساس لمبدأ السيادة الخارجية أو الاستقلال السياسي في القرآن الكريم في قوله تعالى:{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4] وقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8/ 63] والعزة: الأنفة. ومن أّهم مقوماتها الاستقلال الذي هو من مستلزمات التمكين في الأرض الذي وعد الله به المؤمنين الذي يعملون الصالحات.
(3)
الشخصية القانونية أو المعنوية: هي الخاصة الثانية للدولة، ومعناها أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لهاطابع الدوام والاستقرار لا تزول بزوال الأفراد الذين يباشرون الحكم، وإن السلطة التي تتمتع بها إنما تقوم من أجل خدمة أغراض الجماعة، لا من أجل تحقيق مآرب شخصية للحاكم. ويترتب على ذلك أن الشخص المعنوي يلزم غيره، ويلتزم في ذمته كالأشخاص الطبيعيين تماماً، أي أن له أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات، كما أشرت سابقاً (ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 52 وما بعدها).
إلا أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في العصر الحديث لانتقادات جوهرية، وهجرها الكثيرون على اعتبار أنها لا تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي (1)، وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان الانتقاص من السيادة على الصعيدين: الإقليمي والدولي، ففي مجال التعاون الإقليمي نما الإدراك لدى بعض الشعوب والأمم بوجوب التجمع في صور تغاير صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية، وبوجوب التعديل في عنصر السيادة الذاتية، وظهرت الاتحادات القارِّية كالاتحاد الأمريكي الذي نشأ في أواخر القرن الماضي، ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية، وكالاتحاد الأوربي الذي برز إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية، فنشأ المجلس الأوربي سنة (1949م)، وعقدت اتفاقية السوق الأوربية المشتركة عام (1957 م)، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة (1955م)(2). وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق الإقليمي نحو الوحدة أو الاتحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها.
وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد، فأصبحت الدول من الناحية النظرية القانونية لا الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام المفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها، والذي هو يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى ومع الهيئات الدولية، فمثلاً: تضمَّن ميثاق الأمم المتحدة قيداً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي، فقضى على حق
(1) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 134.
(2)
أحكام القانون الدولي في الشريعة، حامد سلطان: ص 153، الحقوق الدولية العامة، فؤاد شباط: ص 258.