الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرى، وذلك يصادم الأصل المقرر في الإسلام: وهو وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام، كما بينت سابقاً في بحث ركن أو صفة السيادة. ولا يترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة بعكس حالة الزوال الكلي، وإنما يقتصر الأمر على انتقال جزء من الإقليم لدولة أخرى.
ويتحدد موقف السلطة الأصلية (الإمامة أو الخلافة وما في معناهما) من الجزء المنفصل في ضوء الحالتين الآتيتين:
أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل
.
104 ـ إذا انفصل جزء من دار الإسلام وأراد جماعة فيه تكوين حكومة خاصة بهم، دعاهم الخليفة إلى التزام الطاعة والانضمام إلى دار العدل أو الرجوع إلى رأي الجماعة، فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم أو يقتلوهم أو يردوهم قهراً إلى الطاعة، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (1) وقال أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (2).
فإن تم إخضاع الجزء المنفصل، كان هو المراد، وتحقق الحفاظ على مبدأ الوحدة الإسلامية.
ب ـ حالة العجز عن إخضاع الجزء المنفصل
.
105 -
إذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع الجزء المنفصل، كما حدث بين الخلافة في بغداد وبين إمارة الأمويين في الأندلس، أصبح الواقع القائم في علاقات المسلمين ببعضهم هو الذي يفرض وجوده في ضوء الاحتمالات التالية:
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم: 242/ 12).
(2)
أخرجه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/ 12).
1 -
إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة الأصلية ولو اسماً، ولكنه انفصل إدارياً، كما حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر نفوذ الأتراك، حيث ظهرت بعض الدويلات الصغيرة المتنافسة، كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية (1)، فإنه يظل معتبراً من دار الإسلام، ولا يعترف بالزوال الجزئي؛ إذ لا مانع فقهاً - كما ذكرت في بحث السيادة - من تعدد السلطات الإدارية لمصلحة أخذاً برأي بعض العلماء، وكانت الولايات الإسلامية في الغالب تشبه هذا الوضع تقريباً، ولكن مع الحفاظ على مبدأ تولية وعزل الوالي من قبل الخليفة، والإبقاء على روابط أوثق من ناحيتي الدفاع والوضع المالي.
2 -
إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو صاحبها، فإن كان الجزء المنفصل أصغر من غيره في مقابل بقية البلاد الإسلامية الباقية تحت سلطة الحاكم الأصلي، فهوزوال جزئي لبعض أجزاء الدولة، وينتظر الوقت المناسب لإعادة إخضاعه إلى الأصل. وهذا كان حال بلاد فارس وما جاورها في العصر العباسي الثالث ـ عصر إمرة الأمراء ـ حيث قامت فيها عدة دول كالطاهرية والصفارية والسامانية والديالمة، ولكن لم يترتب على الانشقاق زوال الدولة العباسية إلا بعد سقوط بغداد بيد التتر والمغول سنة (656 هـ)(2).
وكذلك كان حال دور ملوك الطوائف (422 - 897 هـ) الذين توزعوا أجزاء الخلافة الأموية في الأندلس، فانقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات عديدة، حتى كان لكل مدينة تقريباً أميرها المستقل، مما أدى إلى فقدان البلاد نهائياً وسقوطها بيد الإسبان.
(1) تاريخ الإسلامي السياسي لحسن إبراهيم: 1/ 3.
(2)
المرجع السابق: 26/ 3.
وإن كان الجزء المنفصل أكبر من الأصل أو مساوياً له، فيمكن اعتباره (دولة إسلامية)(1) إذا توافرت جميع عناصر الدولة من شعب وإقليم وسلطة أو سيادة، ولكنها لا تمثل (الدولة الإسلامية) بمفهومها العام، لعدم وجود وحدة السيادة على جميع أنحاء البلاد، كما تقضي بذلك مبادئ الإسلام.
وفي الماضي شهدت البلاد تجزئة سياسية من هذا النوع، لا سيما عند إحياء الخلافة الأموية في الأندلس سنة (300 هـ)، بعد أن كان أمراء بني أمية فيها يلقبون أنفسهم بلقب (الأمير) أو نحوه. وحينئذ أصبح في العالم الإسلامي في ذلك الوقت ثلاث خلافات: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في المهدية بتونس، والخلافة الأموية في قرطبة.
106 -
والفقهاء وإن كانوا متبرمين بهذا الانقسام ويعتبرون الأمويين في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى بغاة يحاربون، فإنهم في الواقع لم يحكموا بزوال الصفة الإسلامية عن الأجزاء المنفصلة، وإنما هي بلاد إسلام، لأن البغاة ليسوا كفاراً، وإنما يطبقون الأحكام الشرعية مع تأويل بعضها. وحينئذ يمكن وصف كل حكومة من الحكومات القائمة فيها بأنها (دولة إسلامية) ينقصها الانضمام مع بعضها وتكوين الوحدة المنشودة التي كانت قائمة في القرون الثلاثة الهجرية الأولى التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها (خير القرون).
ولكن الذي لا شك فيه أنه نجم عن هذا الانقسام السياسي ضعف الدولة الإسلامية وزوالها التدريجي لفقدانها قوة الوحدة وتعاون الجماعة.
(1) بالتنكير الذي يدل على وحدات جزئية.