الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلافة التي هي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا.
ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن الخطط الدينية الشرعية، من إمامة الصلاة، والفتيا، والقضاء، والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم (1).
وهنا أفصل الكلام في ولاية الحسبة على النحو التالي:
1 -
حقيقة الحسبة:
وهي تشمل تعريف الحسبة وأساسها وغايتها، وقاعدتها وأصلها، وواضعها والفرق بين المحتسب والمتطوع وشروطها وآدابها.
2 -
اختصاصات المحتسب.
3 -
مقارنة أوموازنة بين ولاية الحسبة ونظام القضاء وولاية المظالم أو نظر المظالم.
أولاً ـ حقيقة الحسبة:
تتبين حقيقة الحسبة في توضيح الأمور التالية:
1 - تعريفها:
الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 195، ط دار الشعب بالقاهرة.
ظهر فعله (1). أو هي وظيفة دينية، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيِّن لذلك من يراه أهلاً له، فيتعيَّن فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزِّر، ويؤدِّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمَّآلين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (المارّة)(2).
قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية: وأما الحكم بين الناس فيما لا يتوقف على الدعوى، فهو المسمى بالحسبة، والمتولي له والي الحسبة.
وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم، وولاية المال قبضاً وصرفاً بولاية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيراً، وناظر البلد لإحصاء المال وضبطه تسمى ولايته: ولاية استيفاء، والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه تسمى ولايته ولا ية السِّر، والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق، والحكم في الفروج والأنكحة والطلاق والنفقات، وصحة العقود وبطلانها: هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي. وبه يتبين أن ولاية الحسبة: خاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة (3).
يتبين من هذا أن الحسبة لا تتوقف على رفع الدعوى من أحد الخصوم،
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 240، ط البابي الحلبي بمصر.
(2)
مقدمة ابن خلدون: ص 201، ط دار الشعب، 576 ط التجارية بالقاهرة.
(3)
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 344، 349، مطبعة المدني بالقاهرة.
ويصح لأي واحد من الناس تبليغ المحتسب بوجود منكر في زمان أو مكان أو لدى شخص معين يقيم مثلاً علاقة غير مشروعة مع امرأة بسبب طلاقها، أو وجود رضاع مشترك بينه وبينها من أم واحدة، أو تعايش معها دون وجود عقد زواج صحيح يربط بينهما.
كما أن للمحتسب أن يتصدى بنفسه لأمر بمعروف أو منع منكر واقع دون انتظار دعوى مرفوعة من شخص ما.
وتكون الحسبة على هذا النحو متعلقة بالنظام العام والآداب، وقد تتعلق بالجنايات أحياناً مما يحتاج إلى سرعة في الفصل فيه، من أجل حماية القيم الإنسانية أو الدينية وتكوين المجتمع الفاضل، فهي إذن ضرورة اجتماعية لا بد منها تمثِّل المجتمع وقيمه، وهي أسبق إلى معرفة ما يسمى في العصر الحديث بنظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، إذ لهاجانبان: إيجابي وسلبي، تقمع الجريمة وتطارد المجرمين من المجتمع دون حاجة لادعاء شخصي، وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها، بالترغيب في فعل المعروف، والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الإخلال بأمن الجماعة واستقرارها، والحفاظ على الأعراض والحرمات.
قال ابن خلدون: ولا يتوقف حكم المحتسب على تنازع أو استعداء (أي ادعاء) بل له النظر والحُكم فيما يصل إلى علمه من المنكرات ويرفع إليه، وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بيِّنة ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام يُنزَّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء.