الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما اليمين: فهي حجة المدعى عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام:«واليمين على المدعى عليه» فإن حلف المدعى عليه، قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة.
وإن نكل عن اليمين، فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضى عليه بالنكول؟ فيه رأيان للفقهاء، أذكرهما فيما يلي:
رد اليمين والقضاء بالنكول:
إذا أبى المدعى عليه أن يحلف، هل يحلف المدعي، أو يقضى له بنكول صاحبه عن اليمين (1)؟ اختلف العلماء في الموضوع.
قال المالكية: ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الأموال ما يؤول إليها فقط كخيار وأجل. وذلك إذا ثبتت الدعوى، أما مجرد دعوى الاتهام فلا ترد على المدعي.
وقال الشافعية: ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ما عدا جنايات الدماء والحدود، ويقضى له بمدعاه، ولا يقضى بنكول المدعى عليه. وتعتبر اليمين المردودة إقراراً تقديرياً. وهذا هو الذي صوبه الإمام أحمد، فيكون رأي مالك والشافعي وأحمد هو القول برد اليمين، لكن المختار عند الحنابلة القول بعدم رد اليمين.
استدل الجمهور بما روى ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» (2) ولأن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طلبت منه، ظهر صدق
(1) النكول: استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة عليه من القاضي (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ص 1051، الطبعة السادسة) وقال في البحر الزخار: 4/ 410: النكول لغة: التأخر عن لقاء العدو، وشرعاً عن اليمين الواجبة.
(2)
رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، والحاكم وصحح إسناده (سبل السلام: 4/ 136، تلخيص الحبير: 4/ 209).
المدعي، وقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه، كالمدعى عليه قبل نكوله، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد، كما سأبين، وقال تعالى:{أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/ 5] أي بعد الامتناع من الأيمان الواجبة، فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة.
ولا يقضى عند الجمهور بالنكول: لأن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعاً وتحرزاً عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يقضى للمدعي مع تردد المدعى عليه، إذ لا يتعين بنكوله صدق المدعي، فلا يجوز الحكم له من غير دليل، فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلاً عند عدم ما هو أقوى منها (1).
وقال الحنفية، والحنابلة في المشهور عندهم: لا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، وبإلزامه بما ادعى عليه المدعي. والنكول إما أن يكون حقيقة كقوله:(لا أحلف) أو حكماً كأن سكت، دون أن يكون هناك عارض كخرس وطرش.
وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة. ولكن لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبداء العذر: ينبغي للقاضي تكرار عرض اليمين ثلاث مرات بأن يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن حلفت فبها، وإلا قضيت عليك بما ادعاه خصمك.
استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فقد جعل جنس الأيمان على المنكرين، كما جعل جنس البينة على المدعي. وفي لفظ
(1) راجع مغني المحتاج: 150/ 4، 444، 447 وما بعدها، المهذب: 301/ 2، 318، بداية المجتهد: 454/ 2، الشرح الكبير للدردير: 146/ 4 وما بعدها، المغني: 235/ 9، الميزان: 196/ 2، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 116، الشرح الصغير: 64/ 5.
آخر للحديث في الصحيحين: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فحصر اليمين في جانب المدعى عليه.
واستدل الحنفية أيضاً بأن النكول دليل على كون المدعى عليه باذلاً للحق إذا اعتبرنا النكول بذلاً، وهو رأي أبي حنيفة، أو كونه مقراً إقراراً تقديرياً بالحق المدعى به إذا اعتبرنا النكول إقراراً، وهو رأي الصاحبين (1)، ولولا كون المدعى عليه باذلاً أو مقراً، لأقدم على اليمين دفعاً لضرر الدعوى عن نفسه وقياماً بالواجب؛ لأن اليمين واجبة عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:«واليمين على من أنكر» وكلمة (على) للوجوب (2).
وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه: «إني أعرض اليمين عليك ثلاث مرات، فإن حلفت، وإلا قضيت عليك بما ادعاه المدعي» فإن كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بالنكول.
(1) النكول: معناه عند أبي حنيفة البذل أي ترك المنازعة والإعراض عنها وإباحة المال والتبرع به في سبيل قطع الخصومة بدفع ما يدعيه الخصم، أي أن النكول له أثر سلبي عند أبي حنيفة، فلا يفيد الهبة والتمليك، ومعناه عند الصاحبين: الإقرار بالحق، أي أن أثره إيجابي (راجع تكملة فتح القدير: 165/ 6 مع شرح العناية بهامشه، الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية: ص 124 وما بعدها) احتج أبو حنيفة الذي جعل النكول كالبذل: بأنا لو اعتبرنا إقراره يكون كاذباً في إنكاره، والكذب حرام، فيفسق بالنكول بعد الإنكار، وهذا باطل، فجعلناه بذلاً وإباحة، صيانة له عما يقدح في عدالته، ويجعله كاذباً.
واحتج الصاحبان اللذان جعلا النكول كالإقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهراً، فيصير معترفاً بالمدعى به؛ لأنه لما نكل ـ مع إمكان تخلصه باليمين ـ دل نكوله على أنه لو حلف لكان كاذباً، وهو دليل اعترافه. ومن ثمرة الخلاف أن الصبي المأذون بالتجارة هل يحلف أو لا؟ فعند أبي حنيفة: لا يحلف لأنه لو نكل كان باذلاً، وهو ليس من أهل البذل، وعند الصاحبين: يحلف؛ لأن النكول إقرار وهو من أهل الإقرار (الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 105).
(2)
تكملة فتح القدير، المرجع نفسه: ص 155، 158، المبسوط: 35/ 17، البدائع: /6 225 وما بعدها، 230، الدر المختار: 442/ 4، اللباب شرح الكتاب: 30/ 4، المغني: 235/ 9 وما بعدها، الطرق الحكمية، المرجع السابق.