الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين:
87 -
لا حرج في الإسلام من قيام الدولة المسلمة بالتعاون مع المخلصين من غير المسلمين، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أتباع الديانات الأخرى، وذلك من أجل تحقيق الخير المشترك والدفاع عن المصالح العامة، والتعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك، ولو على شروط يبدوفيها بعض الإجحاف، عملاً بالمثل الرائع الذ ي وضعه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية:«والله لا تدعوني قريش إلى خُطة يسألوني فيها صلة الرحم ويعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (1).
والدليل أن القرآن حدد لنا أسلوب الدعوة ومنهاجها، فجعلها دعوة بالحجة والبرهان في قوله تعالى:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل:125/ 16] وطالبنا بحماية المشركين عبدة الأوثان ورعايتهم حين إقامتهم بدار الإسلام، وانتقالهم إلى مأمنهم في قوله سبحانه:{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6/ 9]. وكذلك حدد القرآن علاقة المسلمين بغيرهم فجعلها مبادلة سلم بسلم قي قوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8]. {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:90/ 4].
بل ندب القرآن المسلمين إلى أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة وعدل وقسط قي قوله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
(1) نيل الأوطار: 34/ 8، سنن أبي داود: 113/ 3.
في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/ 60].
88 -
ومما يلقي الضوء على أنه لا مانع شرعاً من التعاون مع غير المسلمين تحديد موقف الإسلام من الديانات الأخرى. وخلاصة القول: إن علاقته بالديانات السماوية إما علاقة تصديق وإقرار كلي في صورتها الأولى، أو علاقة تصديق في بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها الحالية. وهذا هو شأنه أمام كل رأي وعقيدة، وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية تتحدد علاقة الإسلام بها بطابع الإنصاف والتبصر والمحاجة والإقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها (1).
إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني وأصول العقيدة كما جاء في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
…
} [الشورى:13/ 42] قال الدهلوي: (اعلم أن أصل الدين واحد اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج
…
الخ) (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (3).
(1) انظر بحث الدكتور محمد عبد الله دراز (موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها) الذي قدمه إلى الندوة العالمية للإسلاميات في لاهور ـ باكستان في يناير (كانون الثاني) عام 1958 وهو منشور في مجلة (لواء الإسلام) العدد الحادي عشر. السنة الحادية عشرة.
(2)
حجة الله البالغة: 68/ 1.
(3)
رواه البخاري عن أبي هريرة (صحيح البخاري: 25/ 5).
وانطلاقاً من وحدة الأصل الديني سارع بعض أهل الكتاب إلى الإيمان كما حكى القرآن: {بلى من أسلم وجهه لله، وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} [البقرة:112/ 2]. {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} (1).
وبالرغم من أن الإسلام أو القرآن جاء {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة:48/ 5] فإنه لا يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم على الإسلام لقوله تعالى: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا، اشهدوا بأنا مسلمون} (2).
89 -
وأما غير أهل الكتاب فتحدد علاقة الإسلام بدياناتهم باستبقاء ما فيها من عناصر الحق والخير والسنة الصالحة. وتنحية ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
ويمكن التعاون معهم سلمياً بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل المعاهدة معهم وعاملهم معاملة أهل الكتاب، فقال عن المجوس:«سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (3) واستعان الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته إلى المدينة بعبد الله بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين، بأن استأجره ليرشده مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه (4). وكذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من سراقة بن
(1) البقرة: 62 ـ ومثلها في في آل عمرن: 113 - 114.
(2)
[آل عمران:64/ 3] وآيات أخرى مثل: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256/ 2].
(3)
رواه الشافعي عن عمر رضي الله عنه (نيل الأوطار: 56/ 8).
(4)
سيرة ابن هشام: المجلد الأول: 488.
مالك بن جُعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن صاحبه لقاء الأمان الذي أمنه عليه، والاستغفار الذي سأله منه (1).
واستعار الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يوم حنين أدرعاً من من صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك (2) واستعان كذلك في هذه المعركة للاشتراك في الجهاد بجماعة من المشركين تألَّفهم من الغنائم (3).
وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الاستعانة بالكفار والمشركين في القتال (4) مستدلين باستعانته صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم (5)، وباستعانته صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين، وبإخباره صلى الله عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين مصالحة الروم، ويغزون جميعاً عدواً وراء المسلمين.
وأجمع الفقهاء على جواز الاستعانة بالمنافقين والفساق، لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه (6).
والخلاصة: إن الإسلام لا يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لإقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين لتحقيق التعاون البنَّآء في سبيل الخير والعدل والبر والأمن وحماية الحرمات ونحو ذلك.
(1) المرجع السابق: ص 489.
(2)
المرجع السابق: 440/ 2.
(3)
سبل السلام: 50/ 4.
(4)
ر: للتفصيل / جهاد، علماً بأن السيادة والراية تكون للمسلمين لا لغيرهم.
(5)
أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلاً (نيل الأوطار: 223/ 7) والرضخ: العطية القليلة بشيء من الغنيمة.
(6)
نيل الأوطار: 223/ 7 وما بعدها، سبل السلام: 49/ 4، البدائع: 101/ 7، مغني المحتاج: 222/ 4، البحر الزخار: 389/ 5، الميزان للشعراني: 181/ 2، الإفصاح لابن هبيرة: ص 438.