الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعرف أو القانون الدولي، وإن كان لا يخضع الممثل السياسي لولاية القضاء الإقليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته، فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ الأمر إلى الدولة الموفدة لمحاكمته، كما أن لها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، وتطلب استدعاءه، بل لها في الجرائم الخطيرة أن تطرده، ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضرورياً للمحافظة على سلامتها، كما لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها. أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء الإقليمي. وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم المقرر في الشريعة لدى فقهائنا.
وأما الخلاف الفقهي حول
تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار الإسلام إذا ارتكبوا جرائم في خارج تلك الدار
، فيتمثل في رأيين أيضاً: مذهب الحنفية، ومذهب الجمهور. أما الحنفية: فيرون أن أحكام الشريعة العقابية لا تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار أو البلاد غير الإسلامية، ولأن وجوب إقامة الحد مشروط بالقدرة على الإقامة أو التطبيق، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها، وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة.
إلا أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين:
الأول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلاد، في دار الإسلام وغيرها؛ لأن الربا حرام في ذاته في أي مكان من العالم.
والثاني ـ أن الأسير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب، فعليه الدية، لأنه إذا تعذر القصاص لعدم ولاية الإمام المسلم على تلك الدار، فتجب الدية؛ لأن الأسر لا يفقد عصمة المسلم، ولأنه (لا يُطَل دم في الإسلام) أي لا يهدر، فإذا امتنع القصاص، أمكن إيجاب الدية.
وأما الجمهور (مالك والشافعي وأحمد): فيرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت، سواء في حدود البلاد الإسلامية أو خارجها، وسواء أكان الجاني مسلماً أم ذمياً أم مستأمناً؛ لأن المسلم ملزم بأحكام الشريعة في أي مكان، والذمي والمستأمن ملزمان بتلك الأحكام الشرعية بمقتضى العهد والأمان. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلاد المشركين، وروى أبو داود في المراسيل عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم» .
وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات كالقمار والرشوة، وما أروع كلمة الإمام الشافعي في ذلك، حيث قال في كتابه الأم (165/ 4):«ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون، ويجتمعون عليه: أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً، فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً» . وهذا واضح في أن الدار أو المكان لا تغير صفة التحريم للأفعال، فلا تمنع العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل الحرام.
وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور - هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، إلا أن الفرق بينهما أن القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في خارج أراضيها، وتطبق العقوبة الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها، وهي ما سبق بيانه من جرائم أمن الدولة، وتزييف العملة، وتزوير أختام الدولة الرسمية.
أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء، ويجيزون لولي الأمر في التعزيرات إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك.
والخلاصة: إن المبدأ الأساسي في الحكم الإسلامي في ديار الإسلام على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ إقليمية القوانين، مع بعض استثناءات كحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة، وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي، ومبدأ الإقليمية التشريعي والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث.