الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1)«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (2).
ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر الإسلام في جميع عهوده التي كان المسلمون فيها متحدين متآخين، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة الفعلية بين المسلمين (3)، ثم حقق لهم معنى الإخاء الأكبر الدائم فيما بينهم، وصار العرب بفضل الإسلام كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية قبائل متفرقة تمزقهم العداوات والأحقاد والإحن القديمة:{وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألَّف بينهم، إنه عزيز حكيم} [الأنفال:63/ 8].
ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلام إلا بوحدة الصف وتوحيد الهدف، كما حصل مثلاً في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر وانتصار المسلمين في موقعة عين جالوت، وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من بلاد المشرق وفتح بيت المقدس.
ومن مزايا الإخاء والاتحاد الإسلامي أنه يحقق للمسلمين تسامياً فوق الاعتبارات الإقليمية الضيقة. أما الدول الحاضرة مثلاً فإنها تسعى لتحقيق ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين، وتحت شعار قومية واحدة، مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة.
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة:
58 -
إن من أول واجبات الدولة رعاية المصالح أو المقاصد التي تقوم عليها
(1) رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح الكبير).
(2)
رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس (الفتح الكبير) وانظر شرح مسلم: 138/ 16.
(3)
مجمع الزوائد: 171/ 8.
الشريعة وتستهدف تحقيقها: وهي المحافظة على الأصول الكلية الخمسة المعروفة بالضروريات، والتي لم تبح في ملة من الملل: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وسميت بالضروريات لأنه يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت، اختل نظام الحياة في الدنيا وضاع النعيم، واستحق العقاب في الآخرة.
وقد حافظت الشريعة على هذه الأصول من ناحيتين:
الأولى: تحقيقها وإيجادها.
الثانية: المحافظة على بقائها.
فتحقيق مبدأ الدين مثلاً بالإتيان بأركان الإسلام الخمسة، والمحافظة عليه بمجاهدة من يريد إبطاله، وعقوبة المرتد عنه بالقتل إن لم يتب.
والنفس تتحقق وتوجد بالتزاوج الذي يؤدي إلى بقاء النوع الإنساني، والمحافظة على بقائها تكون بفرض العقوبة على قاتلها وهو القصاص. فقد شرع القصاص للحفاظ على النفوس والدماء، لأن القصاص مقررللحياة التي هي من أجلّ المنافع.
والعقل إذا وهبه الله للإنسان يحافظ عليه بإباحة كل ما يكفل سلامته، وتحريم ما يفسده أو يضعف قوته كشرب الخمر والمسكرات وتعاطي المخدرات، وإقامة الحد على الشارب وتعزير متناول الحشيشة والأفيون ونحوهما لغير حاجة طبية.
والنسل شرع لإقامته استحلال البُضْع (1) بطريق مشروع، وللمحافظة عليه شرع حد الزنى وحد القذف لصيانة الأعراض والكرامات.
(1) البضع، بضم الباء جمعه إبضاع: يطلق على الفرج والجماع ويطلق على التزويج أيضاً كالنكاح يطلق على العقد والجماع (ر: المصباح المنير).
والمال شرع لإيجاده السعي في طلب الرزق والمعاملات بين الناس، وللمحافظة عليه شرع حد السرقة بقطع اليد، وتحريم الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (1).
قال الغزالي جامعاً المقاصد المذكورة (إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهي مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة)(2).
وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الأساسية للأفراد تعتبر من الدعائم الأولى للحكم الإسلامي التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع:«أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (3)«كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (4).
59 -
وبالمناسبة أبيِّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والجماعية عند التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو التوصل
(1) ر: الموافقات للشاطبي: 8/ 2 وما بعدها، فواتح الرحموت شرح مسلَّم الثبوت: 63/ 3 التقرير والتحبير: 144/ 3، شرح العضد على مختصر المنتهى: 240/ 2، روضة الناظر: 414/ 1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 137، شرح الإسنوي: 63/ 3، الإبهاج شرح المنهاج: 38/ 3.
(2)
المستصفى: 140/ 1، ط التجارية، وانظر مثل ذلك في الإحكام للآمدي: 54/ 3 - 55 أعلام الموقعين: 14/ 3.
(3)
رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر بن عبد الله ـ أطول الأحاديث (ر: شرح مسلم: 182/ 8، 167/ 11، مجمع الزوائد: 265/ 3 جمع الفوائد: 472/ 1 وما بعدها).
(4)
رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (شرح مسلم: 120/ 16، الترغيب والترهيب: 309/ 3 وما بعدها).
إلى المال، إذ أن الإسلام راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح الإسلام للفرد في الحالات العادية بالطغيان على حساب المجموع أو يتعدى حدوده، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع.
كذلك لا تضيع في نظام الإسلام شخصية الفرد، ولا تهدر مصلحة الجماعة، لأن غاية حياة الإنسان حقيقة في الإسلام هي غاية الجماعة بعينها، أي تنفيذ القانون الإلهي في الدنيا وابتغاء وجهه في الآخرة كما ذكرت. وبهذا يتحقق التوازن المطلوب إسلامياً بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين معاً حتى يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة.
ودليل ذلك أن الإسلام حرم كل ما يؤدي إلى الاستغلال والإخلال بتوازن الثروات مثل الربا والاحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن والتدليس (1) وإنقاص المكيال والميزان واكتناز الذهب والفضة ونحو ذلك.
وألزم الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، وأجاز للدولة في مال الأغنياء فرض ما يكفي من التكاليف المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلاد.
ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام:«من ضارّ أضر الله به، ومن شاقَّ شاق الله عليه» (2).
وطلب من ولي الأمر الاهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل
(1) نيل الأوطار: 189/ 5، 212، 220، سنن أبي داود: 270/ 2 ط الحلبي.
(2)
رواه أبو داود عن أبي صِرْمة (سنن أبي داود: 283/ 2).