الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجال القضاء بالنكول:
قال الحنفية وأصحاب أحمد: يقضى بالنكول في الأموال، أما غير المال أو مالا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، فلا يقضى فيه بالنكول، فلا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين، وإنما يقضى عندهما بالدية أو بالأرش.
وقال أبو حنيفة: يقضى بالقصاص في الطرف حالة العمد، وبالدية حالة الخطأ، أما في القصاص بالنفس فلا يقضى فيه عنده لا بالقصاص ولا بالمال أي بالدية، لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
وإذا كان لا يقضى بالنكول في القصاص عند الحنابلة، سواء أكان في النفس أم في الطرف، فماذا يصنع بالجاني؟ وجهان ـ أحدهما: يخلى سبيله؛ لأنه لم يثبت عليه حجة، والثاني: يحبس حتى يقر أو يحلف.
وكذلك لا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب؛ لأن النكول يعتبر بذلاً عند أبي حنيفة، وإقراراً فيه شبهة عند الصاحبين؛ لأنه في نفسه سكوت، والحدود لا تحتمل البذل، أي لا يقبل من المتهم إباحة نفسه لإقامة الحد عليه، وتندرئ بالشبهات، فلا تثبت بدليل فيه شبهة، والنكول فيه شبهة، كما أوضحت، فلا تجب به.
وقال أبو حنيفة: لا يقضى أيضاً بالنكول في الأشياء السبعة: وهي النكاح، والرجعة، والفيء في الإيلاء، والنسب، والرق، والاستيلاد، والولاء، ولايستحلف المنكر فيها؛ لأن النكول عنده يعتبر بذلاً وإباحة، والبذل لا يجري في هذه الأشياء. فإذا أنكر الرجل أو المرأة عقد النكاح، فقالت المرأة مثلاً: لا نكاح بيني وبينك، ولكن بذلت لك نفسي، لم يصح بذلها؛ لأن الزوجية لا تباح بالبذل.
وكذلك في الرجعة: بأن ادعى الرجل بعد الطلاق وانقضاء المدة أنه كان قد راجعها في العدة، وأنكرت المرأة، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر.
وفي دعوى الفيء بالإيلاء، أي الرجوع إلى معاشرة الزوجة بعد أن حلف ألا يطأها مدة أربعة أشهر (1): إذا ادعى الرجل بعد انقضاء مدة الإيلاء أنه كان قد فاء إليها في المدة، وأنكرت المرأة أو بالعكس، فلا يستحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر.
وفي دعوى النسب: بأن يدعي شخص على مجهول النسب أنه ولده أو والده وأنكر المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر ولا يصح قوله: أبحت له أن يدعي نسبي، لم يصح بذله.
وفي دعوى الرق: بأن ادعى مجهول النسب أنه عبده، وأنكر المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يقبل قوله: بذلت له نفسي ليسترقني.
وفي دعوى استيلاد الأمة، بأن ادعت أمة على مولاها أنها ولدت منه ولداً، وأنكر المولى، لا يحلف ولا يقبل قوله: بذلت نفسي لجعل الأمة مستولدة مني. وفي هذه الصورة لايتأتى العكس، أي أن يكون من قبل الأمة؛ لأن المولى إذا ادعى الاستيلاد، ثبت ذلك بإقراره، ولا يلتفت إلى إنكار الأمة.
وفي دعوى الولاء، بأن ادعى إنسان على مجهول أنه عتيقه ومولاه وأنكر
(1) هذا مأخوذ من قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:2/ 226 - 227].
المجهول، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح قوله: بذلت نفسي ليجعلني مولاه (1).
كل هذا بخلاف الأموال، فإنه يجري فيها البذل، فلو قال شخص: هذا المال ليس لفلان، ولكن أبحته وبذلته له، لأتخلص من خصومته، صح بذله.
هذا رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: يجري الاستحلاف والنكول في هذه الأشياء السبعة؛ لأن النكول عندهما إقرار، والإقرار يجري في هذه الأشياء، لكنه فقط إقرار فيه شبهة، فلا يقبل في الحدود، كما أشرت. فنكول المدعى عليه دليل على كونه كاذباً في إنكاره؛ لأنه لو كان صادقاً لما امتنع من اليمين الصادقة، فكان النكول إقراراً دلالة أو تقديراً، إلا أنه إقرار فيه شبهة، وهذه الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة، إذ يجوز إثباتها بالشهادة على الشهادة، وشهادة رجل وامرأتين.
والفتوى على قول الصاحبين أي بتحليف المنكر، والقضاء عليه بالنكول في هذه الأشياء، لا في الحدود والقصاص، واللعان؛ لأنه في معنى الحد؛ إذ أنه (أي اللعان) بالنسبة للزوج يعد قائماً مقام حد القذف، وبالنسبة للمرأة يعد قائماً مقام حد الزنا، فلا يجري النكول فيه (2).
والخلاصة عند الحنفية: أنه لا تحليف في الحدود اتفاقاً، ويستحلف في القصاص والأموال كلها اتفاقاً، واختلفوا في التحليف في سبع مسائل، فعند الإمام: لا يستحلف. وعند الصاحبين: يستحلف. وكل ما يجري فيه التعزير من الحقوق كالضرب والشتم والألفاظ
(1) جاريت الفقهاء في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرق إتماماً للبحث من الناحية التاريخية؛ لأنهم يصفون هذه الأشياء بصفة واحدة، ويقولون عنها:«لايجري البذل في الأشياء السبعة» فكان من الضروري ذكرها لمعرفة ما هذه الأشياء السبعة، ولبيان طبيعة هذه الحالات.
(2)
تكملة فتح القدير: 162/ 6 - 166، البدائع: 230/ 6، الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 443/ 4، اللباب شرح الكتاب للميداني: 31/ 4.