الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا: أهمية الغزوة:
1 -
كانت كما سماها القرآن الكريم: يوم الفرقان.
يقول ابن إسحاق في تفسير ما نزل في هذه الغزوة من سورة الأنفال: {.. وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} أي يوم فرقت فيه بين الحق والباطل بقدرتي يوم التقى الجمعان منكم ومنهم {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} من الوادي {وهم بالعدوة القصوى} من الودي إلى مكة {والركب أسفل منكم} أي عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها على غير ميعاد منكم ولا منهم {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} أي ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغهم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم {ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا} أي ليقضي ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وأهله من غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه ثم قال (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حييى عن بينة وإن الله لسميع عليم} أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك)(1).
2 -
ويحدثنا سيد رحمه الله تعالى عن هذا الفرقان فيقول:
(أ) (
…
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني؛ ونظاما جديدا للمجتمع، وشكلا جديدا للدولة، بوصفه
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 672، 673.
إعلانا عاما لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته، الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع لأنه لم يكن يملك أن يقف كامنا منتظرا على طول الأمد، لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم، ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة، وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولا، ثم في حياة البشرية أخيرا .. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.
(ب) وكانت فرقانا بين عهدين من تاريخ البشرية. فالبشرية بمجموعها قبل النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام، وهذا النظام الجديد الذي انبثق منه هذا التصور، وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلادا جديدا للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها، ويقوم عليها النظام الاجتماعي، والتشريع القانوني على السواء، هذا كله لم يعد ملكا للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر، وتوكيد وجود المجتمع الجديد، إنما صار - شيئا فشيئا - ملكا للبشرية كلها، تأثرت به سواء في دار الإسلام أو خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته!
والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ليحاربوا الإسلام، ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذين جاؤوا ليحطموه، وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم. بعدما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي!
والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية، وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة، وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في أوربا .. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء.
(ج) وكانت فرقانا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة، فجرت - وكل عوامل النصر الظاهرية - في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم .. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقانا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر والهزيمة ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلاما يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان ..) (1).
(1) في ظلال القرآن، المجلد الثالث ص 1521، 1524.
3 -
وكانت فرقانا بين الحق والباطل، على مستوى الكون كله؛ فالباطل يحشد جنده كلهم، وعلى رأسه إبليس الذي جاء بشخصه ليحضر المعركة. {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} قال ابن إسحاق:
وحدثني بزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: (لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقه بن مالك بن جعشم المدلجي. من أشراف بني كنانة. فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا سراعا)(1).
وليؤكد لهم هذا الموقف فقد حضر معهم المعركة، كما فعل يوم الهجرة (ولما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى بنفسه في البحر فرفع يديه فقال: اللهم إني أسالك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص إليه القتل)(2).
وفرعون هذه الأمة يقول:
(يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 611 ويزيد بن رومان ثقة وعروة بن الزبير ثقة فقيه مشهور.
(2)
مجمعالزوائد للهيثمي 77/ 6 رواه الطبراني. وقال الهيثمي فيه عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف.
ميعاد مع محمد، لا يهولنكم قتل عتبة وشيبة ابني ربيعة فإنهم قد عجلوا. فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، فلا ألفين رجلا قتل رجلا منهم، ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إيكم، ورغبتهم عن اللات والعزى) (1).
بينما نلحظ في الطرف الآخر أن الله تعالى هو الذي يقود المعركة وما عرف تاريخ الأرض معركة يشارك فيها الملائكة بالقتل مثل بدر. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم قثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} (2).
ومعركة على رأسها إبليس وأبو جهل من طرف، وجبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام من طرف آخر هل يمكن أن يكون في الوجود كله أخطر منها؟
ومن أجل هذا قيل أن أفخر بيت قالته العرب هو هذا البيت:
وبيوم بدر إذ ترد وجوههم
…
جبهل تحت لوائنا ومحمد (3)
(1) المصدر السابق 77/ 6.
(2)
الأنفال /12.
(3)
ذكره صاحب العقد الفريد، وغيره أنه أفخر بيت قالته العرب هو قول حسان بن ثابت المذكور. البداية والنهاية 3/ 307. وله رواية: وببئر بدر إذ يكف مطيهم.
والله تعالى شأنه يقول: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم} (1).
ولم يشارك جبريل فقط في المعركة بل شارك سادات الملائكة معه: (فعن علي بن أبي طالب قال: كنت على بئر، فكنت يوم بدر أميح وأمتح منه فجاءت ريح شديدة ثم جاءت ريح شديدة فلم أر ريحا أشد منها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة. فكانت الأولى ميكائيل في ألف من الملائكة عن يمين النبي (ص)، والثانية إسرافيل في ألف من الملائكة عن يسار النبي (ص)، والثالثة جبريل في ألف من الملائكة، وكان أبو بكر عن يمينه، وكنت عن يسار، فلما هزم الكفار حملني رسول الله (ص) على فرسه، فلما استويت عليه حمل بي فصرت على عنقه (عنق الفرس) فدعوت الله فثبتني عليه، فطعنت برمحي حتى بلغ الدم إبطي (2).
وهذا منطوق الآية القرآنية: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوكم به وما النصر إلا من عند الله
(1) الأنفال /17.
(2)
مجمع الزوائد للهيثمي 77/ 6، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
العزيز الحكيم} (1).
وتبدو في ما كان يريد الباطل أن يصل إليه: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة فإن شئت لا تعبد في الأرض)).
(والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، وبمسيرنا وجعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها فامضوا)(2).
((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداة)) (3).
وأبو جهل فرعون الأمة يزعم أنه يمثل الحق، ويستفتح بالله أن ينصر على محمد (ص):(اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة)(4).
وعندما عرض المدد على قريش من خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، فأرسلوا إليه (أن وصلتك رحم فقد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نفاتل الله كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة)(5).
(1) آل عمران 124 - 126.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 1/ 618، 619.
(3)
المصدر نفسه 621/ 1، وقد رواه النسائي والحكم ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(4)
المصدر نفسه 628/ 1. وقد رواه ابن إسحاق من الزهري (ثقة). عن عبد الله بن ثعلبة (من صغار الصحابة).
(5)
المصدر نفسه 621/ 1.
واستجيب دعاء فرعون الأمة، فكانت الدائرة عليه: {إن تسفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) (1).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أدركت أبا جهل يوم بدر صريعا، فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله تعالى. قال: وبم أخزاني وهل أعمد من رجل قلتموه، ومعي سيف لي فجعلت أضربه ولا يحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده قوقع السيف من يده، فأخذته ثم كشفت المغفر عن رأسه فضربت عنقه، ثم أتيت النبي (ص) فأخبرته فقال: ((الله الذي لا إله إلا هو)) قلت: آلله الذي لا إله إلا هو. قال: ((انطلق فاستثبت)) فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك، فأخبرته. فقال رسول الله (ص):((انطلق)) فانطلقت معه، فأريته. فلما وقف عليه (ص) قال:((هذا فرعون هذه الأمة)) (2).
وصدق أبو جهل وهو كذوب .. فما لأحد بالله من طاقة.
وهكذا كانت نهاية الطرف الأول إبليس يفر إلى البحر خوفا ورعبا ويسأل الله النظرة وأبو جهل فرعون هذه الأمة يقتله غلامان من الأنصار، ويقطع عنقه رويعي الغنم عبد الله بن مسعود.
(1) الأنفال 19.
(2)
مجمع الزوائد للهيثمي 79/ 6 وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن أبي وهب بن أبي كريمة وهو ثقة.