المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الخامس والعشرون غزوة الحديبية ‌ ‌أحداث الحديبية: 1 - (عبد الرزاق عن معمر، - فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي البحث

- ‌أولامباحث تمهيدية

- ‌الفصل الأولمعنى السيرة النبوية وأهميتها

- ‌تعريف بالسيرة النبوية:

- ‌أهمية السيرة النبوية:

- ‌دراسة السيرة عبادة:

- ‌مصادر السيرة:

- ‌أولا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيا كتب السنة:

- ‌ثالثا: كتب السير والتراجم:

- ‌رابعا: كتب الدلائل والشمائل والمعجزات والخصائص:

- ‌خامسا: كتب التاريخ والأدب:

- ‌مدى عناية المسلمين بها:

- ‌وكلمة عن ابن هشام وعمله في سيرة ابن إسحاق:

- ‌السيرة النبوية خلال القرون:

- ‌الفصل الثانيالنبوة

- ‌حاجة البشر إلى الأنبياء:

- ‌حاجتهم إلى خاتم الأنبياء:

- ‌الإيمان هو الأصل والشرك طارئ:

- ‌النبوة اجتباء من الله تعالى واصطفاء:

- ‌الفصل الثالثلمحة عن‌‌ أصل العرب وعقيدتهم

- ‌ أصل العرب وعقيدتهم

- ‌طروء الشرك عليهم:

- ‌عناية الإسلام بسد ذرائع الشرك:

- ‌الفصل الرابعنبذة عن حياة العرب

- ‌أصول العرب:

- ‌ العرب البائدة:

- ‌ العرب العاربة:

- ‌ العرب العدنانية:

- ‌الحالة الدينية:

- ‌الطواغيت:

- ‌الحالة السياسية:

- ‌ الملك باليمن:

- ‌الملك بالحيرة

- ‌الملك بالشام:

- ‌الإمارة بالحجاز:

- ‌الحياة الاجتماعية والخلقية:

- ‌الحالة الاقتصادية:

- ‌الحالة الخلقية:

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

- ‌الفصل الخامساختياره من بيت شرف ونسب

- ‌الفصل السادسيتم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رضاعه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السابععمله ب‌‌الرعيوالتجارة

- ‌الرعي

- ‌التجارة:

- ‌الفصل الثامنحفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة

- ‌لقاؤه مع بحيرا الراهب:

- ‌أمره بستر عورته:

- ‌أمر الجاهلية:

- ‌وقوفه بعرفات:

- ‌الفصل التاسعمشاركته في أحداث قومه

- ‌حضوره حرب الفجار

- ‌شهوده حلف الفضول:

- ‌بناء الكعبة والتحكيم:

- ‌الفصل العاشرزواجه من خديجة

- ‌العهد المكي للدعوة

- ‌الفصل الحادي عشرالوحي

- ‌الفصل الثاني عشرمراحل الدعوة

- ‌الفصل الثالث عشرمن أسلوب المخالفين في مواجهة الدعوة

- ‌أولا: التشويه:

- ‌ثانيا: التهديد:

- ‌ثالثا: التعذيب:

- ‌رابعا: الترغيب:

- ‌ المال:

- ‌ الجاه:

- ‌ النساء:

- ‌خامسا: التعجيز:

- ‌سادسا: الاغتيال:

- ‌سابعا: المقاطعة:

- ‌الفصل الرابع عشرسنة الله تعالى في الابتلاء

- ‌ تزكية الفرد:

- ‌ نفي الخبث عن الدعوة:

- ‌ الدعاية لها:

- ‌ جذب بعض العناصر القوية إليها:

- ‌وجوب الصبر على الابتلاء

- ‌الفصل الخامس عشرالاستفادة من قيم الجاهلية

- ‌الفصل السادس عشروطن الداعية حيث مصلحة الدعوة

- ‌الهجرة إلى الحبشة:

- ‌قريش تحاول إعادة المهاجرين إليها:

- ‌تخطيط ذكي جديد:

- ‌مؤامرة جديدة تتحطم:

- ‌ثانيا: عرض رسول الله (ص) نفسه على ثقيف

- ‌ثالثا: عرض نفسه على القبائل

- ‌بنو شيبان:

- ‌الفصل السابع عشرالإسراء والمعراج ودلالتهما

- ‌حديث الإسراء

- ‌حديث المعراج

- ‌الفصل الثامن عشرالهجرة إلى المدينة

- ‌أولا: أسبابها:

- ‌ثانيا: التخطيط لها وأهميتها في تاريخ الدعوة:

- ‌ تهيئة الركب:

- ‌ شراء البعيرين وعلفهما:

- ‌ جاء في نحر الظهيرة:

- ‌ مجيئه مقنعا:

- ‌ الأمر بإخراج الناس من البيت:

- ‌ تهيئة الزاد:

- ‌ الخروج من خوخة أبي بكر:

- ‌ كتمان الأمر:

- ‌ الخروج إلى الغار:

- ‌ عبد الله يتلقط الأخبار:

- ‌ عامر بن فهيرة يعفو على الأثر:

- ‌ ابن فهيرة وغنمه للزاد كذ

- ‌ رسول الله (ص) لا يبيت على فراشه:

- ‌ مبيت علي رضي الله عنه في الفراش:

- ‌ اختيار الدليل المناسب:

- ‌ اختيار طريق الساحل:

- ‌ الهادي على الطريق:

- ‌ حيلة أسماء في المال:

- ‌أهمية الهجرة في تاريخ الدعوة:

- ‌ثالثا: دور الشباب والمرأة في الهجرة:

- ‌العهد المدني للدعوة

- ‌الفصل التاسع عشرتنظيم المجتمع النبوي

- ‌أولا: بناء المسجد:

- ‌ثانيا: المؤاخاة:

- ‌ثالثا: وثيقة المدينة (الدستور الإسلامي):

- ‌الباب الأول

- ‌الباب الثاني

- ‌الباب الثالث

- ‌ دستور الدولة الإسلامية الجديدة

- ‌ الباب الأول: حقوق وواجبات المسلمين في الدولة المسلمة:

- ‌ الباب الثاني: حقوق وواجبات غير المسلمين في الدولة المسلمة

- ‌ الباب الثالث: أحكام عامة للمواطنين عامة:

- ‌الفصل العشرونالإذن في الجهاد

- ‌أولا: مرحلة كف اليد:

- ‌ثانيا: الإذن في الجهاد:

- ‌ثالثا: أهمية الجهاد في الإسلام:

- ‌الفصل الحادي والعشرونأهم السرايا والغزوات

- ‌أولا: الإحصاء الإجمالي:

- ‌ثانيا: سرية عبد الله بن جحش:

- ‌الفصل الثاني والعشرونغزوة بدر

- ‌أولا: أسباب الغزوة وأهدافها:

- ‌ثانيا: الاستشارة التي غيرت وجه المعركة:

- ‌ثالثا: استقصاء المعلومات عن العدو:

- ‌رابعا: من أحداث الغزوة:

- ‌خامسا: أهمية الغزوة:

- ‌سادسا: آثارها:

- ‌الفصل الثالث والعشرونغزوة أحد

- ‌أسباب الغزوة:

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌قوانين النصر والهزيمة:

- ‌التمحيص في أحد:

- ‌النماذج الإيمانية الرائعة:

- ‌القيادة النبوية العظيمة:

- ‌آثار المعركة:

- ‌ من حيث موقف المسلمين في المدينة:

- ‌ من حيث جرأة العرب على المؤمنين:

- ‌ من حيث الموقف مع قريش:

- ‌كيف عالج القرآن أثر المحنة

- ‌الفصل الرابع والعشرونغزوة الخندق

- ‌أسباب الغزوة:

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌الفصل الخامس والعشرونغزوة الحديبية

- ‌أحداث الحديبية:

- ‌الفصل السادس والعشرونغزوة خيبر

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل السابع والعشرونغزوة مؤتة

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الثامن والعشرونفتح مكة

- ‌ أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل التاسع والعشرونغزوة حنين

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الثلاثونغزوة تبوك

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الحادي والثلاثونمواقف المنافقين من الدعوة

- ‌ النفاق في مكة:

- ‌ بداية التجمع:

- ‌ دورهم في غزوة بني قينقاع:

- ‌ دورهم في غزوة أحد

- ‌ تآمرهم مع بني النضير

- ‌ المنافقون يوم الأحزاب

- ‌ الفريق الأول:

- ‌ الفريق الثاني:

- ‌ الفريق الثالث:

- ‌ المنافقون يوم بني المصطلق

- ‌ بعد الحديبية وفتح مكة

- ‌الفصل الثاني والثلاثونمواقف اليهود من الدعاة

- ‌ الموقف الديني:

- ‌ المواقف السياسية

- ‌المواقف العسكرية

- ‌الفصل الثالث والثلاثونأزواج النبي (ص)

- ‌المرحلة الأولى: حتى الخامسة والعشرين:

- ‌ عنف صبوة الشباب وتأجج العاطفة

- ‌المرحلة الثانية: حتى الخمسين من عمره

- ‌ زواجه من خديجة رضي الله عنها

- ‌المرحلة الثالثة: حتى الخامسة والخمسون من العمر

- ‌ الزواج بعائشة وسودة

- ‌المرحلة الرابعة: من الخامسة والخمسين حتى الستين

- ‌بقية نسائه

- ‌(أ) حفصة بنت عمر رضي الله عنها:

- ‌(ب) زينب بنت خزيمة

- ‌(ج) أم سلمة:

- ‌(د) زينب بنت جحش:

- ‌(هـ) أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌(و) جويرية بنت الحارث:

- ‌(ز) ريحانة بنت زيد:

- ‌(ح) صفية بنت حيي:

- ‌(ط) مارية القبطية:

- ‌(ي) ميمونة بنت الحارث:

- ‌المرحلة الخامسة: من الستين إلى الثالثة والستين

- ‌لم يتزوج فيها رسول الله

- ‌خاتمة

- ‌الفصل الرابع والثلاثونعالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها من السيرة

- ‌ كتب رسول الله (ص) إلى كل ملوك الأرض

- ‌ كتاب هرقل عظيم الروم:

- ‌ كتاب كسرى عظيم الفرس

- ‌ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:

- ‌ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:

- ‌ بقية الكتب:

- ‌الفصل الخامس والثلاثونأخلاقه صلى الله عليه وسلم

- ‌وجوب محبته ومن لوازم محبته اتباعه:

- ‌نماذج من تربيته (ص) لأصحابه:

- ‌الفصل السادس والثلاثونوفاته صلى الله عليه وسلم. وبيعة الصديق

- ‌قبل أربعة أيام: يوم الخميس:

- ‌قبل ثلاثة أيام: يوم الجمعة:

- ‌قبل يوم واحد:

- ‌آخر يوم من الحياة:

- ‌اللحظات الأخيرة:

- ‌جهاز رسول الله (ص) ودفنه

- ‌تكفين رسول الله:

- ‌حفر القبر:

- ‌الصلاة على رسول الله ثم دفنه:

- ‌الفصل السابع والثلاثونبيعة الصديق وحروب الردة

- ‌الانقلاب على العقب:

- ‌إنفاذ جيش أسامة:

- ‌مانعو الزكاة:

- ‌ الكتاب الذي وجهه الصديق إلى هؤلاء المردة المرتدين

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم:

- ‌ثبت المراجع والمصادر

- ‌المحتوى

الفصل: ‌ ‌الفصل الخامس والعشرون غزوة الحديبية ‌ ‌أحداث الحديبية: 1 - (عبد الرزاق عن معمر،

‌الفصل الخامس والعشرون

غزوة الحديبية

‌أحداث الحديبية:

1 -

(عبد الرزاق عن معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم صدق كل واحد منهما صاحبه - قالا:

(- خرج رسول الله (ص) زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة (1)، قلد رسول الله (ص) الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا من خزاعة - يخبره عن قريش - وسار رسول الله (ص) حتى إذا كان بغدير الأشطاط (2) قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش (3)، وجمعوا لك جموعا

(1) ذي الحليفة: ميقات أهل المدينة على بعد ستة أميال منها.

(2)

غدير الأشطاط وعسفان: هي من مكة على مرحلتين.

(3)

الأحابيش: الأعراب حول مكة.

ص: 507

وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال النبي (ص):((أشيروا علي! أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محرومين (1) وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا قاتلناه)) فقالوا: رسول الله أعلم، يا نبي الله إنما جئنا معتمرين، ولم نجىء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، قال النبي (ص):((فروحوا إذا)).

فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي (ص): ((إن خالد بن الويد بالغمم (2) في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين))، فالله ما شعر بهم خالد إذ هو بقترة (3) الجيش، فانطلق، فإذا هو يركض نذيرا لقريش، وسار النبي (ص) حتى إذا كانوا بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل. فقالوا: خلأت (4) القصواء، خلأت القصواء. فقال النبي (ص):((ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكنها حبسها حابس الفيل)) ثم قال: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)) ثم زجرها، فوثبت به.

قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد (5) قليل الماء، إنما

(1) محروبين: مسلوبي المال.

(2)

الغميم: واد أمام عسفان بثمانية أميال.

(3)

قترة الجيش: غباره.

(4)

خلأت القصواء: بركت.

(5)

ثمد: ماء قليل.

ص: 508

يتبرضه (1) الناس تبرضا، فلم يلبثه أن نزحوه فشكي إلى رسول الله (ص)، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل (2). وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال النبي (ص):((إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكننا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم (3) الحرب، وأضرت بهم، فإذا شاؤوا ماددتهم (4) مدة ويخلوا بيني وبين الناس. فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل به الناس فعلوا، وإلا فقد جموا (5) وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (6) أو لينفذن الله أمره)).

فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤمم لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه شيء، وقال

(1) يتبرضه: يتبلغه الناس بالقليل.

(2)

العوذ المطافيل: أي خرجوا ومعهم اللبن والزاد لطول المقام والدفاع.

(3)

نهكتهم: أهلكتهم.

(4)

ماددتهم: هادنتهم لمدة.

(5)

فقد جموا: استراحوا وازدادت قوتهم.

(6)

تنفرد سالفتي: صفحة العنق وكنى بها عن الموت.

ص: 509

ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي (ص)، فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قومي ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ. فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: فأته. فأتاه.

قال: فجعل يكلم النبي (ص) نحوا مما قاله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أرأيت إن استأصلت قومك هل سممت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني لأرى وجوها، وأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا عنك. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يدلك عندي لم أجزل بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي (ص). فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي (ص)، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي (ص) ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله (ص)، فرفع عروة رأسه، قال: من هذا؟ فقالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر أولست أسعى في غدرتك .. ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي (ص) بعينيه: فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، قال: فرجع

ص: 510

عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا .. وإنه عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من كنانة (1): دعوني آته. فقالو: أئته، فلما أشرف على النبي (ص) وأصحابه. قال رسول الله (ص):((هذا فلان وهم من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)) فبعثوها له، وانطلق القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فقال رجل منهم يقال له مكرز بن حفص: دعوني آته.

قالوا: أئته. فلما أشرف عليهم قال النبي (ص): ((هذا مكرز وهو رجل فاجر)) فجعل يكلم النبي ..) (2).

2 -

قال ابن إسحاق: (

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي. وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله (ص) عثمان بن عفان. فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما له.

قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة فلقيه إبان بن سعيد بن

(1) رجل من كنانة: هو الحليس بن علقمة أو ابن زيان، وهو سيد الأحابيش.

(2)

المغازي للزهري 50 - 54. ورجاله زجال الصحيحين.

ص: 511

العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله (ص) فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله (ص) ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله (ص) إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله (ص)، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله (ص) أن عثمان بن عفان قد قتل) (1).

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله (ص) قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم.

فدعا رسول الله (ص) إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.

فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله (ص) على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله (ص) لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر. فبايع رسول الله (ص) الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها، إلا الجد بن قبس، أخو بني سلمة، فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد خبأ إليهاا يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله (ص) أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل. قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة عن ابن عمر: أن رسول الله (ص) بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى) (2).

(1) وسندها: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

السيرة النبوية لابن هشام 2/ 315، 316. وقد أورد البخاري سفارة عثمان عن ابن عمر رضي =

ص: 512

3 -

قال معمر: قال الزهري في حديثه. فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتابا، فدعا النبي (ص) الكتاب، فقال النبي:((اكتب بسم الله الرحن الرحيم)) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا يكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال رسول الله (ص): ((اكتب: باسمك اللهم)) ثم قال: ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي (ص)((والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله)) قال الزهري: وذلك لقوله ((لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمة الله إلا أعطيتهم إياها)) فقال النبي (ص): ((على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)) فقال سهيل: لا تتحدث العرب أنا اخذنا ضغطة. ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب: فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هم كذلك إذ جاء أبو

جندل بن سهيل يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما

= الله عنهما قال: وأما عن تغيبه عن بيعة الرضون فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان، وكان بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي (ص) بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده. فقال: هذه لعثمان. البخاري ك. 64 المغازي ب. إن الذين تولوا منكم 19 ج 5 ص 126.

ص: 513

أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي (ص)((إنا لم نقض الكتاب بعد)) قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي (ص): ((فأجزه لي)) فقال: ما أنا بمجيزه لك. قال: ((بلى فافعل)) قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟! ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله. فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، قال: فأتيت النبي (ص) فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: ((بلى)) قال: قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال:((بلى)) قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: ((إني رسول الله، ولست أععصيه وهو ناصري)) قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: ((بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام)) قلت: لا. قال: ((فإنك آتيه ومطوف به)). قال: فأتيت أبا بكر، فقلت يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا. قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره. فاستمسك بغرزه حتى تموت. فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: فأخبرك أنه سيأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله (ص): ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)) قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. قال: فلما لم يقم منهم أحد. قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي

ص: 514

الله أتحب ذلك، أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد يقتل بعضهم بعضا غما) (1).

1 -

((الآن نغزوهم ولا يغزونا)) لقد ابتدأت المرحلة الجديدة، وتحرك المسلمون نحو مكة: صحيح أنهم قاصدو العمر. لكن هذا التحرك بحد ذاته إيذان بمنطلق جديد، محفوف بالأخطار، فلن ترضى مكة ببساطة هذا التحدي، وقد عبأت كل قواتها من بني عامر بن لؤي وكعب بن لؤي والأحابيش (قريش الظواهر وقريش البطاح) أهل مكة والأعراب المجاورون حولها. يعاهدون الله أن لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا. وقد أبدى عليه الصلاة والسلام استعداده للمواجهة مرتين:

الأولى: حين بلغه تجمع قريش لمواجهته فقال: ((أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا قاتلناه)).

الثانية: في الرسالة التي بعثها مع بديل بن ورقاء: ((إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين .. وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره)).

قبل عام كانوا محاطين بعشرة آلاف مقاتل من فوقهم ومن أسفل منهم، وهم الآن على مشارف مكة، يستعدون للمواجهة مع من يحول

(1) المغازي النبوية للزهري 54 - 56 ورجاله رجال الصحيح، وقد ورد بعضا منه بالسند نفسه عن البخاري.

ص: 515

بينهم وبين البيب الحرام.

2 -

لقد تغير الموقف والاتجاه مع الرسول (ص)، منذ أن كانوا في الثنية التي تهبط منها على الحديبية، وبركت الناقة هناك.

لقد كانت الاستشارة قبل بروك الناقة قائمة، في المواجهة أو غزو ذراري المشركين، وحتى في نزول الأمكنة، لكن بروك الناقة يعني تطورا جديدا في الخطة النبوية عبر عليه الصلاة والسلام عنها بقوله:((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكنها حبسها حابس الفيل)) وحابس الفيل حال دون أبرهة ومكة، ولهذا أعلن عليه الصلاة والسلام ملامح الخطة الجديدة المتطورة:((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)).

وهذا التطور تم من غير مشورة، إنما ثم بتوجيه رباني صرف، قرر عليه الصلاة والسلام على ضوئه الانتقال من المواجهة إلى المصالحة أو الهدنة ما أمكن ذلك.

3 -

ولكنها ليست الهدنة أو المصالحة عن ضعف، بل هي من موطن القوة. ورسل قريش الذين جاؤوا أربعة:

بديل بن ورقاء: وهو متهم بتحيزه لمحمد (ص)، لكن الرسالة التي حملها بثت الرعب في قلب القوم.

عروة بن مسعود: الذي استنجد بثقيف فلم تنجده فجاء بأهله وخاصته ليظاهر قريشا ضد محمد (ص)، ولقد أبدى المسلمون أمام عروة ابن مسعود من القوة والانضباط والتفاني بقيادتهم ما أذهل عروة. يقتتلون على وضوئه، يبتدرون نخامته فيدلكون بها وجوههم، وكان لا بد من هذه

ص: 516

المظاهر لتواجه مكر ثقيف المتمثل بعروة والذي حاول أن يوهن الصف المسلم ويتهمه بالتخاذل (فإني لأرى وجوها وأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا عنك)، فكان الرد الحاسم الصارم من أبي بكر الصديق .. أبي بكر الحليم الوديع الهادىء يجيبه بقوله:(امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟) وفي جواب ابن أخي عروة المغيرة بن شعبة الذي يهدد عروة بقوله: (أخر يدك عن لحية رسول الله (ص) قبل أن لا ترجع إليك). لقد تماسك عروة ظاهرا، أما حقيقة قناعته فهي التي نقلها لقريش:(والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا) ثم دعا قريش لقبول المصالحة.

الوافد الثالث: الحليس بن علقمة زعيم أعراب مكة، ومنذ أن رآه رسول الله (ص) قال:((إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا في وجهه الهدي)) فرأى الهدي فقفل راجعا من حيث جاء، ومضى يسائل قريشا: أيصد عن البيت من جاء معظما له؟ فيقول له أحدهم: اجلس إنما أنت أعرابي .. فثارت ثائرته وقال: والله ما على هذا حالفناكم .. والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.

الوافد الرابع: مكرز بن حفص، وقال عنه عليه الصلاة والسلام عندما رآه:((هذا رجل غادر)) وكلم نحوا مما كلم بديلا الخزاعي.

لقد باءت خطة مكة بالفشل، وهي تحاول أن تثني محمدا وصحبه بالإرهاب والتخويف، ووجدت نفسها مسوقة مرغمة إلى

ص: 517

المفاوضات.

إنها عظمة القيادة النبوية التي تسيطر على الموقف. وتواجه كل طارىء بما يناسبه، وعظمة الصف المسلم الذي بدا أمام هؤلاء في أعلى مستوى من الانضباط والطاعة والاستعداد للفداء.

4 -

وإلى سفارة عثمان وبيعة الرضوان: فيقف المسلم أمام جرأته، حيث يمضي لمكة معقل الشرك والمشركين، ليبلغ رسالة رسول الله (ص)، والتزامه في رفضه الطواف حتى يطوف النبي (ص). ومثل هذا الجندي الفدائي، ما أن يبلغ رسول الله (ص) مقتله، حتى ليرى نفسه أن لا خيار أمامه إلا الحرب، إنها القيادة الفذة التي تخوض حربا من أجل جندي واحد بلغها مقتله.

ويعجب المرء أكثر لالتزام الصف المسلم كله، القادم للعمرة لا للحرب، فحين يدعو رسول الله (ص) للبيعة على الموت أو على عدم الفرار، لا يوجد في الصف كله من يعترض أو يناقش، إننا لو كنا في غير هذه الأمة لحقد الجنود على قائدهم أن جاء يورطهم في حرب لم يعدوا لها عدتها، وهم خارجون للنسك لا للقتال. وقد يعذر القائد واحدا أو اثنين أو أكثر، أما في الصف المسلم، في الألف والأربعمائة، لم يتخلف إلا منافق واحد لم يجرؤ على البيعة واختبأ في ظل ناقته، وحق لهؤلاء أن يكونوا خير أهل الأرض.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله

ص: 518

(ص) يوم الحديبية: ((أنتم خير أهل الأرض)) وكنا ألفا وأربعمائة) (1).

هذا الصف المسلم الذي يبايع على الموت، توقف المعركة، ويقر الصلح، ويقر رسول الله (ص) بنودا في ظاهرها انتقاص للمسلمين وددنية في دينهم، قد يتكلمون قبل أن يقول الرسول (ص) كلمته، ولكن بعد أن يقولها، فالسمع والطاعة، وإن كادوا ليتميزون غيظا من الألم. لكن هذا لا ينال من انضباطهم شيئا .. ويفقد ابن الخطاب رضي الله عنه توازنه وأعصابه، ويحتج ويأتيه الجواب:((إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)).

إن صفا بهذا المستوى العظيم يبايع على الموت، ولم يأت للحرب، ثم يلتزم بإيقاف الحرب لعشر سنين، في فترة واحدة لهو مؤهل أن يغير وجه التاريخ، وقد فعل.

ومن أجل هذا كان أصحاب بيعة الرضوان أفضل المسلمين في الأرض إلى قيام الساعة بعد أهل بدر.

وإن الدعاة إلى الله اليوم مدعوون إلى أخذ أنفسهم بالتربية والمجاهدة إلى أن يقتربوا من هذه القمة السامقة في تكوين القاعدة الصلبة، التي تحارب حين يحارب أميرها، وتسالم حين يسالم .. تحمل السلاح حين تؤمر، وتضع السلاح حين تؤمر .. طائعة على المنشط والمكره وأثره عليها، وعندما تبلغ القاعدة الصلبة هذا المستوي تكون

(1) البخاري ك. المغازي 64 ب. غزوة الحديبية 35 ج 5 ص 157.

ص: 519

مؤهلة للتمكين في الأرض، والاستخلاف فيها، وتحقيق موعود الله بنصره وتأييده.

5 -

وكانت الحديبية الفتح المبين: فظاهر الأمر ذلة للمؤمنين، في عودتهم عن مكة وقد صدوا عن البيت، وفي التزامهم برد من جاءهم مسلما دون أن يلتزم المشركون بمقابله، وفي إصرارهم على أن يمحوا اسم الله واسم رسوله من وثيقة الصلح، وقد تجسد هذا الغيظ مضاعفا بقدوم أبي جندل بن سهيل، وقد فر من المشركين للمسلمين، ويصرخ: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني.

ورسول الله (ص) يقول: ((اصبر أبا جندل فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا)).

هذا هو ظاهر الأمر، للعقل البشري القاصر، أما أبعاده فكانت في ميزان الله غير ذلك:

(أ) فعن البراء بن عازب قال: (تعدون الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضون يوم الحديبية)(1).

(ب)(عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله (ص) كان يسير في بعض أسفار، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله (ص) ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، وقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله (ص) ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركت بعيري

(1) البخاري ك. المغازي ب غزوة الحديبية 35 ج 5 ص 157.

ص: 520

ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي. قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، وجئت رسول الله (ص) فسلمت عليه فقال:((لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب علي مما طلعت عليه الشمس)) ثم قرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} ) (1).

(ج)(عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم، قال: لما نزلت: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله} إلى قوله {فوزا عظيما} مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: ((لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا)) (2).

(د)(عن أنس بن مالك رضي الله عنه: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا فما لنا فأنزل الله: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات} قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكرت له فقال: أما {إنا فتحنا لك} فعن أنس، وأما (هنيئا مريئا فعن عكرمة)(3).

وحق لعمر رضي الله عنه أن يرتجف قلبه بعد الموقف العنيف الذي وقفه، وهو يسأل رسول الله (ص) ثلاث مرات فلا يرد عليه، حتى

(1) البخاري ص 161.

(2)

مسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. صلح الحديبية 34 ج 3 ح 97 ص 1413.

(3)

البخاري ك. المغازي 64 ب. صلح الحديبية 35 ج 5 ص 165.

ص: 521

ليخشى أن ينزل الله فيه قرآنا، وعندما نزلت آية الفتح اختار رسول الله (ص) عمر بالذات ليسمعه إياها ردا على تصوره:(فلم نعط الدنية في ديننا){إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} (1).

وحق لرسول الله (ص) أن تكون هذه الآية، أحب إليه مما طلعت عليه الشمس، وأحب عليه من الدنيا جميعا، فالله تعالى قد فتح له الفتح المبين، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه ونصره نصرا عزيزا، فأي نعم في هذا الوجود تفوق هذه النعم؟ وقد نزلت والمسلمون يخالطهم الحزن والكآبة لما نزل بهم من هم الحديبية، وحق لهم أن يفرحوا بعد حزن، وقد سروا لسرور رسول الله (ص) إن كان النصر والفتح والمغفرة لرسول الله فماذا لهم؟ ويأتيهم الجواب:{ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما} (2). وكان هذا الفتح المبين، هو فتح القلوب لهذا الدين والتوطئة لفتح مكة: يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل

(1) الفتح 3/ 1.

(2)

الفتح / 5.

ص: 522

في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله (ص) خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف) (1).

لقد انطلق الإسلام، وتجاوز ليل المحنة الطويل الذي جثم من أحد إلى الخندق، وكان صلح الحديبية إيذانا بفجر جديد للدعوة والدعاة.

(1) البداية والنهاية لابن كثير 192/ 4 - 193.

ص: 523