الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورأت فاطمة ما برسول الله (ص) من الكرب الشديد الذي يتغشاه فقالت: واكرب أباه فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم.
ودعا الحسن والحسين فقبلهما ووصى بهما خيرا. ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
(قال معمر: وسمعت قتادة يقول: آخر شيء تكلم به رسول الله (ص): ((اتقوا الله في النساء وما ملكت أيمانكم (1)))).
اللحظات الأخيرة:
تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله (ص) وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة، ثم يحيا، أو يخير. فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي عائشة، غشي عليه. فلما أفاق: شخص بصره نحو سقف البيت. ثم قال: ((اللهم في الرفيق الأعلى))).
فقلت: إذن لا يختارنا. فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح) (2).
وقالت: إن من نعم الله على أن رسول الله (ص) توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري (3) ونحري، وأن الله جمع بين ريقه وريقي عند موته. دخل علي عبد الرحمن (ابن أبي بكر) وبيده السواك. وأنا مسندة رسول الله (ص). فرأيته ينظر إليه. وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه
(1) مغازي الزهري / 134 البخاري: م 2/ ج 6/ ص 12.
(2)
البخاري: م ط - ج 6 - ص 12.
(3)
السحر: الرئة. والنحر: الصدر.
لك. فأشار برأسه أن نعم فتناولته فاشتد عليه. وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته فأمره، وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء. فجعل يدخل يديه فيمسح بها وجهه يقول:((لا إله إلا الله إن للموت سكرات.))). ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى))) حتى قبض ومالت يده) (1).
وفي رواية: (فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده - أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة)(2).
وعن أنس قال: لما ثقل النبي (ص) جعل يتغشاه. فقالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه قال: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) فلما مات قالت: يا أبتاه. أجاب ربا دعاه. يا أبتاه. من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلي جبريل ننعاه (3)).
وقالت عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله (ص) بين سحري ونحري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحدا. فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله (ص) قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم (4) مع النساء وأضرب وجهي (5).
وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها. قالت: فسجيته ثوبا. فجاء عمر
(1) و (2) البخاري م 2/ ج 6/ ص 15 - 16.
(3)
المصدر نفسه / ص 18.
(4)
التدم: اضرب صدري.
(5)
السيرة النبوية لابن هشام 2/ 655. ورجاله رجال الصحيح.
والمغيرة. فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت الحجاب. فنظر عمر إليه فقال: واغشيتاه، ثم قاما. فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات! قال: كذبت بل أنت رجل تحوشك فتنة وإن رسول الله (ص) لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب) (1). وقالت: إن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح. حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة. فتيمم رسول الله (ص) وهو مغشى بثوب حبرة. فكشف عن وجهه. ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد متها) (2).
وعن ابن عباس قال:
ثم (إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس. فأقبل الناس إليه وتركوا عمر. فقال أبو بكر: أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} إلى قوله {من الشاكرين} وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر. فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني قدماي وحتى أهويت إلى
(1) فتح الباري 8/ 146 وقد أورده عن أحمد.
(2)
البخاري م 2 / ص 17.
الأرض حين سمعته تلاها أن النبي (ص) قد مات) (1).
…
ونقف قليلا عند بعض المعاني التي يحسن أن نستشعرها ونتأسى بها في وفاة رسول الله (ص):
1 -
حادث الوفاة نفسه. وأثره الوجداني والشعوري على نفوس المسلمين. وأن يغيب عن الدنيا. أكمل إنسان فيها وأعظم إنسان فيها. وما فقدته البشرية ورزئت به من غياب شخصه صلوات الله عليه عنها. هو أمر جلل لا يعدله مصيبة لقد غاب عن هذه الأرض. سيد ولد آدم، أعظم القادة وأعظم المربين وأعظم الدعاة. وأعظم الأخلاقيين وأعظم الحكام، وأعظم العلماء، وأعظم المفكرين، وأعظم المشرعين. وأعظم البشر.
خاتم النبيين رسول رب العالمين.
- وكانت هذه السنوت القليلة من تاريخ البشرية هي أعظم سنواتها وأبرك حياتها. وتكون أعظم جيل في هذا الوجود. خيركم قرني ثم الذين يلونهم.
ولابد أن يستشعر الداعية المسلم دائما وأبدا هذا المعنى. وأن مصابه بالنبي محمد (ص). لا يعدله مصاب.
- وبذلك تبقي جذوة الحب متقدة، وشمعة الإيمان متقدة. ولذة الإيمان وحلاوته تعطر وجوده وحياته. فيبقى قلب الداعية المؤمن بهذا المدد العاطفي. كما وصف الله تعالى قلوب المخلصين من عباده: فيه مثل السراج يزهر.
2 -
والخطبة التي خطبها عليه الصلاة والسلام. ومثلت آخر لقاء بينه وبين
(1) البخاري م 2 / ج 17/ 6.
أمته نلاحظ أنها تمثل أهم الأمور التي تقلق بال النبي (ص) بعد وفاته.
(أ) فقد جاء ب لا إله إلا الله. وقد يئس الشيطان إن يعبد في هذه الأرض. وقد دخلت الوثنية إلى الشرائع السابقة من اليهود والنصارى من خلال حبهم لأنبيائهم {وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (1).
وأضخم فتنة يخشاها عليه الصلاة والسلام على أمته هي أن تنصرف هذه الأمة عن عبادة الله إلى عبادته. ابتداء من تحويل قبره صنما للعبادة. ((لا تتخذوا قبري وثنا يعبد))). ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))). وحمى الله الأمة المسلمة من هذه الفتنة. فهو يريد لأمته أولا وأخيرا سلامة هذه العقيدة.
وقد تمثل التطبيق العملي لهذا الفهم العظيم. في كلمة الصديق بعد وفاة النبي (ص): (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله. فإن الله حي لا يموت). {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (2).
(ب) ويريد عليه الصلاة والسلام أن يلقى ربه خاليا من الذنب. وقد غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه. فدعا أمته إلى القصاص منه ((من
(1) التوبة / 30 - 31.
(2)
آل عمران /144.
كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن كنت أخذت له مالا. فهذا مالي فليستقد منه))). فهل وعت البشرية حاكما. وراعيا في رعيته مثل محمد (ص)؟ وهل يوجد أمثال هذه النماذج إلا ممن تخرج من مدرسة النبوة؟.
أوليس الدعاة إلى الله. وورثة محمد (ص). هم المؤهلون في هذا الجيل ليعيدوا هذه الدروس من جديد؟.
(ج) وأوصى بالأنصار حزبه، وكما سماهم ((كرشي وعيبتي)). وشهد لهم أن أدوا ما عليهم بلا ثمن. وبقي الذي لهم. وكانوا الصورة المثلى في هذا الوجود لمن يعطي ولا يأخذ، لمن يضحي لا يطلب الثمن إلا من رب العالمين لم ينس عليه الصلاة والسلام. أعلى نماذج الوفاء والتضحية في البشرية أبا بكر رضي الله عنه. والذي شهد له بأنه ما من أحد أمن عليه بماله وأهله من أبي بكر.
(و) ثم وجه الأنظار إلى أنه ماض إلى ربه وأنه مغادر هذه الأمة ((وأن عبدا خيره الله تعالى أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء. وبين ما عنده فاختار ماعنده)). وأحس الصديق رضي الله عنه لسع النار. فهو إشارة واضحة إلى قرب اصطفاء رسول الله (ص) لجوار ربه. فراح يبكي ويقول: نفديك بآبائنا وأمهاتنا.
ويا لها من لحظات وداع مؤثرة تفتت الأكباد، وتمزق القلوب؟.
3 -
ثم كانت قضية الكتاب. واختلف الصحابة رضوان الله عليهم فيه. وحرموه. وما زال الخلاف في أمة محمد إلى اليوم ((لا تختلفوا بعده أبدا))). لقد كان تفكيره في أمته. في سلامة عقيدتها وسلامة