الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنو شيبان:
(وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم - رحهم الله من حديث أبان بن عبد الله البجلي (1) عن أبان بن تغلب (2) عن عكرمة (3) عن ابن عباس، حدثني علي بن أبي طالب قال:
ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم. قال علي: وكن أبو بكر مقدما في كل خير، فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟ قالو: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله (ص) فقال: بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وكان في القوم: مفروق بن عمرو، وهانىء ابن قبيصة، والمثنى بن الحارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديربان تسقطان على صدره، فكان أدنى القو مجلسا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال له: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف (4) عن قلة. فقال له: فكيف المنعة فيكم؟ فقال: علينا الجد ولكل قوم جد. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال
(1) أبان بن عبد الله البجلي: صدوق في حفظه لين (تقريب التهذيب).
(2)
أبان بن تغلب: ثقة تكلم فيه للتشيع (تقريب التهذيب).
(3)
عكرمة: ثقة ثبت عالم بالتفسير (تقريب التهذيب).
(4)
يحسن أن لا يغيب عن الذمن، أن قريشا حين جيشت جيشها يوم بدر لم يكن ليزيد عن الألف، وفيه صناديدها وأبطالها، أما الأعداد الأكبر فيما تلا، فمن حلفائها من القبائل العربية المجاورة.
مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا (1) مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، ثم التفت إلى رسول الله فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال (ص):((أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني، حتى أؤدي إلى الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد)) قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟
فتلا رسول الله (ص){إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (2).
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا، وصاحب ديننا، فقال له هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وإني أرى أننا إن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك وننظر في
(1) الإدالة: الغلبة. ودالت الأيام: دارت.
(2)
النحل 90.
عاقبة ما تدعو إليه، زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت قولك، واستحسنت مقالتك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة. وتركنا ديننا، واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صرين (1) أحدهما اليمامة والآخر السماوة. فقال له رسول الله (ص):((وما هذان الصريان؟)) فقال له: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول. فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا. فقال له رسول الله (ص):((ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق. إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه)).
ثم قال رسول الله (ص): ((أرأيم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم، ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟)) فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش. فقلا رسول الله (ص): {إنا
(1) الصريان: مثنى صرى، وهو كل ماء مجتمع.
أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (1) ثم نهض رسول الله (ص) قابضا على يدي أبي بكر، قال علي: ثم التفت إلينا رسول الله (ص) فقال: ((أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها -بها يتحاجزون في الحياة الدنيا)) قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي (ص).
.... فلم يلبث رسول الله (ص) إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: ((احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم، وبي نصروا) قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار، وفيها يقول الأعشى
…
هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة، ومحاسن الأخلاق، ومكارم الشيم، وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى، وفيه: أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر (2) - مكان قريب من الفرات - جعلوا شعارهم اسم محمد (ص)، فنصروا على فارس بذلك. وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام) (3).
(وذكر غير ابن إسحاق ما لم يذكر ابن إسحاق مما رأيت املاء بعضه في هذا الكتاب تتمة لفائدته، ذكر قاسم بن ثابت والخطابي عرضه نفسه على بني ذهل بن ثعلبة، ثم على بني شيبان بن ثعلبة، فذكر الخطابي وقاسم جميعا ما كان من كلام أبي بكر مع دغفل بن حنظلة الذهلي، زاد قاسم تكملة
(1) الأحزاب 45، 46.
(2)
قراقر: موضع بين الكوفة وواسط وكذلك ذو قار.
(3)
البداية والنهاية لابن كثير 157/ 3 - 159.
الحديث، فرأينا أن تذكر زيادة قاسم، فإنها مما تليق بهذا الكتاب قال: (ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار
…
) (1).
وذكر الراوية الآنفة الذكر.
(وروي في حديث مسند إلى طارق قال: رأيت رسول الله مرتين: رأيته بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على القبائل يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) وخلفه رجل له غديرتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبيه، يقول: يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل: هو غلام عبد المطلب. قلت: ومن الرجل يرجمه؟ فقيل لي: هو عمه عبد العزى أبو لهب، وذكر الحديث بطوبه، خرجه الدارقطني، ووقع أيضا في السيرة من رواية يونس) (2).
(وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي، فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكاية، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم، وغيرهم .. وسياق أخبارها مطولة، وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا، ولله الحمد والمنة)(3).
(1) الروض الأنف للسهيلي 181/ 2.
(2)
الروض الأنف للسهيلي 182/ 2.
(3)
البداية والنهاية لابن كثير 3/ 160.
1 -
لقاء رسول الله (ص) لم يدخلهم في الإسلام ولكنه غزاهم في أعماقهم، وعندما التقوا مع الفرس تشجعوا لذلك اللقاء، كما سمعوا الوعد من الصادق المصدوق (ص) ((أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم ..)) ومن أجل هذا جعلوا شعارهم: محمد (ص).
وبه انتصروا، وكانت هذه المقدمة للنصر الحقيقي للإسلام وشريعته.
وما تحرك المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه ابتداء، ومن ذاته بعد أن دخل بالإسلام، وجرأته على فارس، ثم إقرار الصديق له، ومده بخالد بن الوليد، إلا ثمرة ذلك اللقاء.
ونخلص من هذه السمة إلى أن الداعية قد لا يلقى أثر دعوته مباشرة، وقد لا يحصل التجاوب المطلوب منذ اللحظات الأولى - كما يبدو لأول وهلة - ولكن حسن عرضه لدعوته لا بد أن يضع بصمة واضحة أو نقطة بارزة في نفس المدعو، تعمل بعدها في نفسه، وتدفع في قلبه لتقوده إلى حظيرة الإيمان.
فلا يزهدن الداعية بأي فرصة، مهما بدت احتمالات القبول ضعيفة، فهي إن لم تغز القلوب، فلا بد أن تفتح مغاليقها، وتكسر أقفالها تهيئة لهذا القبول.
2 -
(إن هذا الأمر مما تكرهه الملوك) فلا شك أن النظرة الفاحصة للمثنى رضي الله عنه تدل على عمق فهمه لهذا الدين، لأنه جاء ليزيل الطغيان من هذه الأرض، ويزيح البغي والطاغوت فيها، ولا شيء يغيظ الملوك
المتجبرين مثل وعي جماهيرهم بحقيقة هذا الدين، ورفضهم الانصياع لهم بعد سماع دعوة التوحيد التي تقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
والحاكم الذي لا يريد أن يفيء إلى ما أنزل الله لن يجد خطرا عليه أعظم من هذا الخطر، لأنه يدعو كما قال ربعي رضي الله عنه (لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ..).
ومن أجل هذا يواجه الطغاة هذا الدين ويحاربونه حفاظا على سلطانهم، وخوفا من أن تنثل عروشهم، وتميد الأرض من تحتهم.
3 -
((إنه لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من جميع جوانبه) سمة أخرى من سمات هذا الدين .. فإن يخضع المسلم في آن لأحد لله وللطاغوت، فهذا ما لا يكون أبدا. وعرف رسول الله (ص) أن هذه المنعة المبتورة الناقصة، المنعة من العرب دون العجم لا تعني. لأن الفرس لا ترضى بهذا الدين بجوارها، ولذلك فلا يتعهد بنو شيبان بحماية رسول الله (ص) منهم، وقد يسلمونه حين يرون أنهم غير ملزمين بحمايته، بينما رأينا الأنصار - كما سيظهر فيما بعد - يقول قائلهم:(تحاربون به الأحمر والأسود من الناس) قد أحاطوا بهذا الأمر من جميع جوانبه.
لا بد من الرأي الواضح المحدد في أي موقف يقفه الحلفاء من الدعوة. وأن نتأكد من صدق الموقف، والاستعداد الحقيقي لتحمل تبعاته، لا أن ترمي بثقلها في مكان، ثم تكون بعد ذلك لقمة سائغة للعدو فيه.
4 -
وعرض رسول الله (ص) لمبادىء العقيدة الأساسية بحيث استأثر بقلب مفروق فقال: (دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك).
ليدل دلالة واضحة على عظمة هذا الداعية وهذه الدعوة، بحيث تكون قادرة على اجتذاب القلوب إليها، والسيوف لحمايتها، يوم يزول الغبش والتشويه، والعوائق من طريقها .. والداعية العظيم هو الذي يقتفي أثر سيد الدعاة محمد (ص) في فن الدعوة وأصولها.
5 -
ولا يترك رسول الله (ص) القوم، إلا أصدقاء لهذه الدعوة وهذا الدين ولم يعلنوا استجابتهم له، حين لا يجد حرجا من الثناء عليهم - على كفرهم - بقوله:((ما أسأتم الرد حين أفصحتم بالصدق)) وفي غيابهم قال عليه الصلاة والسلام: ((أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا)).
ودعاة اليوم نناديهم أن يتعلموا هذه الأصول في فقه التخاطب مع الرجال والجماعات، والأصدقاء والأعداء، لا أن يكون همهم السب والشتم للجاهلية، بكل ما فيها، لينفروا منها الناس كافة ولا يبقوا لهم صديقا يتعاطف معهم، ليكونوا كما قال الله تعالى لهم:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (1).
6 -
ونود أخيرا أن يبقى في ذهن الدعاة، ظاهرة أبي طالب، وظاهرة أبي
(1) المائدة 8.
لهب، وكلا الرجلين في النار .. ولكن شتان بين من كان يجمع كل قومه وولده لحماية رسول الله (ص) من القتل، بل يضع أولاده في فراش رسول الله (ص)، فيما لو تعرض لغيلة، ويضحي بهم، ولا يرضى لمحمد (ص) إلا أن يكون بجواره، وبحماية سيفه.
وبين من يلاحق رسول الله (ص) إلى كل موقف، كل ناد للقوم، ليكذبه، ويرد رأيه، ويرجمه بالحجارة، ويتابع كل مجلس يجلسه، ليقذفه بالكذب والجنون.
فهل يدرك الدعاة هذه الظواهر، وهم يتحركون في سبيل الله، فيصبرون على مرها، ويجنون شهدها، دون تشنج أو انزلاق أو استسلام؟
***