الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأي فصل بين الحب والاتباع هو انحراف في المنهج. والذي نؤكد عليه مدى التفاعل والالتحام بين الجانبين. إن وجود الحب يقود قطعا إلى الاتباع والاقتداء. وإن التعبد لله بالاتباع والاقتداء يذكي مشاعر الحب، ويغذي شجرته {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها ويضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} (1).
نماذج من تربيته (ص) لأصحابه:
وحيث لا يتسع المقام لعرض التربية النبوية اليومية والمستمرة لأصحابه (ص). فهذا له مقام غير هذا المقام وسفر غير هذا السفر. لكن لابد من وضع النموذج الحي الذي يبرز ذلك التفاعل الأعظم بين أمام المربين عليه الصلاة والسلام، وجنده.
ونكتفي بعرض عشر نماذج متنوعة. تعطينا لمحة عن هذا الأمر:
1 -
أبو حذيفة بن عتبة: عن ابن عباس أن النبي (ص) قال لأصحابه يومئذ: ((إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا. فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البخترى بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله. فإنه إنما أخرج مستكرها))) .. قال: فقال أبو حذيفة (ابن عتبة): أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا. ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف. قال. فبلغت رسول الله (ص)، فقال: لعمر بن الخطاب: ((يا أبا حفص)) قال عمر: والله إنه أول
(1) إبراهبم / 24 - 25.
يوم كناني فيه رسول الله بأبي حفص - ((أيضرب وجه عم رسول الله (ص) بالسف؟)) فقال عمر: دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا) (1).
وهذا أبو حذيفة رضي الله عنه نفسه الذي يهدد بقتل عم محمد في سورة انفعال نراه في المعركة نفسها وقد سقط أبوه وعمه وأخوه صرعى بسيوف المسلمين. فماذا يفعل؟
(قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله أن يلقوا في القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب. فنظر رسول الله (ص) - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة. فإذا هو كئيب قد تغير لونه. فقال: ((يا أبا حذيفة: لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء))) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فقال: لا، والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه. ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا. فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك فدعا له رسول الله (ص) بخير وقال له خيرا) (2).
(1) السيرة لابن هشام / 1/ 9، 6 وقد رواها ابن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن نفيد بن عباس (ثقة) عن بعض أهله عن ابن عباس.
(2)
المصدر نفه / 1/ 640 - 641.
لقد ربى رسول الله (ص) أبا حذيفة حين أبرز له خطأه عن طريق عمر ودفعه إلى الندم عليه. وتابعه في أشد لحظات انفعاله حيث برز أثر التربية فيه، خلال الغزوة نفسها. وانتقل من هيئة من كان يريد قتل عم محمد (ص) بسيفه إلى هيئة من يرى مصرع أبيه وعمه وأخيه فلا يغضبه بل يحزنه موتهم على الكفر. وهي نقلة هائلة ولاشك. لا يمكن أن تتم إلا في مصنع العقيدة وعند مربيها عليه الصلاة والسلام.
2 -
أبو العاص بن الربيع: قال ابن اسحاق: وقام أبو العاص (بن الربيع) بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله (ص) بالمدينة حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام. وكان رجلا مأمونا، بمال له وأموال لقريش. فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله (ص) فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربا. فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله (ص)، فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج رسول الله (ص) إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة (1) النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. قال: فلما سلم رسول الله (ص) أقبل على الناس فقال: ((أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟)) قالو: نعم، قال:((أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه تجير على المسلمين أدناهم)).ثم انصرق رسول الله (ص). فدخل على ابنته فقال: ((أي بنية. أكرمي مثواه. ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.))).
(1) الصفة: السقيفة.
قال ابن اسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله (ص) بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم: ((إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا. فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك. وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به))). فقالوا: يا رسول الله بل نرده عليه فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشنة (1) وبالاداوة (2)، حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ (3)، حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا
…
) (4).
ونتساءل ماذا كانت ثمرة هذه المعاملة في نفس أبي العاص؟
(
…
ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ومن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش: هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه، قالوا: لا. فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم. فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت.
ثم خرج حتى قدم على رسول الله (ص).
قال ابن اسحاق .. وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد عليه رسول الله (ص) زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئا بعد ست سنين) (5).
(1) الشنة: السقاء البالي.
(2)
الاداوة: إناء صغيرة من جلد.
(3)
الشظاظ: خشبة عقفاء تدخل في عروتي الرحل.
(4)
و (5) السيرة النبوية لابن هشام 657/ 1 - 659.
لقد بقي أثر المعاملة النبوية في نفس أبي العاص يعمل عمله في نفسه حتى انتهى به جنديا في الصف الإسلامي دون أن يكون الخوف والإرهاب سبيله إلى الإسلام، فلم يعلن إسلامه إلا في مكة.
3 -
وقال البيهقي بسنده عن ابن عباس عن شيبة بن عثمان، قال:
لما رأيت رسول الله (ص) يوم حنين قد عري (1) ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت: اليوم أدرك ثأري من رسول الله (ص). قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه. فإذا العباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله. ثم جئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يمحشني. فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى. فالتفت رسول الله (ص) وقال: ((يا شيب ادن مني، اللهم اذهب عنه الشيطان))) قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقال:((يا شيب قاتل الكفار))) (2).
فالبشرية لم تشهد أبدا إلا عند إمام المربين عليه الصلاة والسلام أن ينتقل هذا الثائر الموتور الذي يود أن يغتال رسول الله (ص) إلى جندي فدائي يفدى من يود اغتياله قبل لحظات.
…
4 -
وعن عائشة قالت: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى
(1) عري: انكشف.
(2)
دلائل النبوة للبيهقي /5/ 145.
اليمن. فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر. فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك. قال:((هو آمن)). فقال: يا رسول الله. فأعطني آية يمعرف بها أمانك. فأعطاه رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة. فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان: فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله (ص) وقد جئتك به. قال: ويلك أغرب عني فلا تكلمني، قال: فداك أبي وأمي! أفضل الناس، وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس! ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك وملكه ملكك. قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم فرجع معه حتى وقف على رسول الله (ص). فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني. قال: ((صدق)). قال: فاجعلني في الخيار شهرين. قال: ((أنت في الخيار أربعة أشهر))) (1).
وعن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله (ص) يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي. فما فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي) (2). وإذا كان المال هو الذي ينزع الغل ويمسح الحقد ويدفن الضلالة فليكن ولينتقل صفوان ابن أمية بذلك من أعنف المبغضين إلى أعنف المحبين.
…
5 -
وقال سلمة عن محمد بن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر: إن رجلا
(1) السيرة النبوية لابن هشام / 2/ 417 - 418.
(2)
مسلم /2313.
ممن شهد حنينا قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله (ص) على ناقة لي وفي رجلي نعل غليظة إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله (ص) ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله (ص) فأوجعه. فقرع قدمي بالسوط وقال: ((أوجعتني. فتأخر عني))) فانصرفت. فلما كان الغد إذا رسول الله (ص) يلتمسني. قال. قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله (ص) بالأمس. قال فجئته وأنا أتوقع. فقال: ((إنك أصبت رجلي بالأمس فأوجعتني. فقرعت قدمك بالسوط فدعوتك لأعوضك عنها))). فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني) (1) وعلى القادة في الأرض أن يتعلموا من سيد الخلق كيف يعامل رعاع الناس، وكيف تذوب الفوارق بين الطبقات. من عقوبة عاجلة يتوقعها الإنسان الغمر الذي أوجع محمدا بقدمه. إلى تعويضه ثمانين نعجة على أثر سوط لسعه لتلك الزحمة.
6 -
عن أنس بن مالك قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن فطفق النبي (ص) يعطي رجالا المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟. قال أنس: فحدث رسول الله بمقالتهم. فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة أدم ولم يدع معهم غيرهم. فلما اجتمعوا قام النبي (ص). فقال: ((ما حديث بلغني عنكم؟)) قال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا .. فقال رسول الله (ص): ((فإني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال
(1) البداية والنهاية لابن كثير 318/ 3.
وتذهبون بالنبي إلى رحالكم.))) (1).
وفي رواية (فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكو شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار))). قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله قسما. ثم انصرف وتفرقوا) (2).
ولابد أن يفقه الدعاة كيف يكون التعامل مع النفوس. فالمؤلفة قلوبهم يمضون بالغنائم ويحرم منها الأنصار، ولا تزال سيوفهم تقطر من دمائهم. ويمضي الأنصار برسول الله (ص) إلى المدينة. فكان هذا أعز عليهم من الدنيا كلها لو سيقت لهم.
7 -
جابر وجمله:
عن جابر قال: خرجت مع رسول الله (ص) إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله (ص) جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف. حتى أدركني رسول الله (ص) فقال: ((ما لك يا جابر؟))) قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال:((أنخه))) قال: فأنخته، وأناخ رسول الله (ص) ثم قال:((اعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي غصنا من شجرة)))، قال: ففعلت. قال: فأخذها رسول الله (ص) فنخسه بها نخسات. ثم قال: ((اركب))). فركبت. فخرج والذي بعثه بالحق، يواهق (3) ناقته
(1) البخاري / ب. مناقب الأنصار ص 37/ ج 4/.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 499/ 2 - 500 وسنده صحيح.
(3)
يواهق: يعارضها في المشي لسرعته.
مواهقة قال: وتحدثت مع رسول الله (ص) فقال لي: (أتبيعني جملك هذا يا جابر؟))) قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال:((لا. ولكن بعنيه))). قلت: فسمينه يا رسول الله، قال:((قد أخذته بدرهم)). قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله! قال:((فبدرهمين)))، قلت: لا. قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله. في ثمنه حتى بلغ الأوقية. قال: فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: ((نعم))). قلت: فهو لك، قال:((قد أخذته))). ثم قال: ((يا جابر، هل تزوجت بعد؟))) قلت: نعم يا رسول الله، قال:((أثيبا أم بكرا؟))) قلت: لا، بل ثيبا، قال:((أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك!)) قلت: يا رسول الله: إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، قال:((أصبت إن شاء الله)). أما إنا لو جئنا صرارا (1) أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسعمت بنا فنفضت نمارقها.)) قلت: يا رسول الله، ما لنا من نمارق. قال:((إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا)). قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله بجزور فنحرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم. فلما أمسى رسول الله (ص) دخل ودخلنا. فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله (ص) قالت: فدونك فسمع وطاعة. فلما أصبحت أخذت برأس الجمل. فأقبلت به حتى أنخت على باب رسول الله (ص). ثم جلست في المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله (ص) فرأى الجمل، فقال: ((ما
(1) صرار: بئر على ثلاثة أميال من المدينة وقد رواه ابن اسحاق عن وهب بن كيسان (ثقة) عن جابر رضي الله عنه.
هذا؟))). قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال:((فأين جابر))). فدعيت له. فقال: ((يابن أخي خذ برأس جملك فهو لك ..))) ودعا بلالا فقال له: ((اذهب بجابر فأعطه أوقية))). قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا.
قال: فوالله ما زال ينمى عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس بما أصيب لنا (1)).
ويحسن أن لا ننسى أن عمر جابر في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز السابعة عشر من عمره. والحبيب المصطفى يرعاه في تخلفه، ويتفقد أحوأله في زواجه، ويعينه بالنفقة، ويساره ويحدثه، ويحمل مؤونته.
8 -
هذا الجيل الذي رباه النبي (ص) كيف كان في الشدائد والملمات؟ نسمع الجواب من عروة بن مسعود رضي الله عنه، الذي كان العدو الألد للمسلمين يقول:
(.. ثم ان عروة جعل يرمق صحابة النبي (ص) بعينيه، قال: فوالله ما نخم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يمدون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده. وما
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 206 - 207.
يمدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.) (1).
9 -
وعروة هذا الذي أذهله حب قوم محمد محمدا. ما باله يصبح مثلهم بعد إسلامه؟؟.
(.. وكان من حديثهم أن رسول الله (ص) لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال له رسول الله (ص)، - كما يتحدث عن قومه.
((إنهم قاتلوك)). وعرف رسول الله (ص) أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله: أنا أحب إليهم من أبكارهم. كان فيهم محببا مطاعا. فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على علية له. وقد دعاهم إلي الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله .. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي. فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (ص) قبل أن يرتحل عنكم. فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله (ص) قال فيه:(إن مثله في قومه كمثل صاحب يسن في قومه.))) (2).
10 -
وماذا عن معاملة زعيم النفاق عبد الله بن أبي وابنه المؤمن عبد الله بن عبد الله؟
(1) المغازي للزهري ص53 - 54 برواية عبد الرزاق عن معمر عنه. وقد رواها عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ورواية ابن الحكم ورجال الحديث رجال الصحيح.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 5/ 34 ثم قال: وهكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة.
قال ابن اسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني. وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله. فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله (ص):((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا))). وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه يعنفونه. فقال رسول الله (ص) حين بلغه ذلك من شأنهم: ((كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))). فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله (ص) أعظم بركة من أمري) (1). فالتربية النبوية الحكيمة للرعيل المسلم الأول من خلال عظمة التعامل مع ابن أبي هي التي حولت رهط ابن أبي من أنوف ترعد وتثأر له إلى أنوف لو أمرها رسول الله (ص) بقتله لقتله.
…
(1) السيرة النبوية لابن هشام 293/ 2 وقد روى ابن إسحاق أحداث بني المصطلق عن عاصم بن عمرو وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حيان وكلهم ثقات.