الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعا: المقاطعة:
(
…
فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول، واجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله (ص) للقتل، وكتبوا بمكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله (ص) للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم فيهن البلاء والجهد، وقطعوا عليهم الأسواق، فلا يتركون طعاما يدنو من مكة، ولا بيعا إلا بادروا إليه ليقتلهم الجوع، يريدون أن يتناوبوا بذلك سفك دم رسول الله (ص).
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله (ص) فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرا أو غائلة، فإذا نوم الناس أخذ أحد بنيه أو أخواته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله (ص)، وأمر رسوله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها.
فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ورجال من قصي ورجال ممن سواهم، وذكروا الذي وقعوا فيه من القطيعة، فأجمعوا أمرهم في ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه، والبراءة منه .. فبعث الله عز وجل على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله (ص) الأرضة فلحست كل شيء كان فيها، وكانت معلقة في سقف الكعبة، وكان فيها عهد الله وميثاقه، فلم تترك فيها شيئا إلا لحسته، وبقي فيها ما كان من شرك أو ظلم أو بغي، فأطلع الله
تعالى رسوله على الذي صنع بالصحيفة، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فلما رأوهم أتوا بجماعة أنكروا ذلك، فظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء وأتوهم ليعطوهم رسول الله (ص). فتكلم أبو طالب فقال:
قد حدثت بينكم أمور لم تذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها.
قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا فيه نصف بيني وبينكم، هذه الصحيفة التي في أيديكم إن ابن أخي قد أخبرني، ولم يكذبني أن الله عز وجل بعث عليها دابة، فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته، وترك فيها غدرهم وتظاهركم علينا بالظلم. فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا فوالله لا نسلمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا، فقتلتم أو استحييتم، قالوا: لقد رضينا بالذي تقول. وفتحت الصحيفة، فوجدوا الصادق المصدوق قد أخبر خبرها قبل أن تفتح. فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب: قالوا: ما كان إلا سحرا من صاحبكم فارتكسوا وعادوا لشر ما كانوا عليه من كفره. والشدة على رسول الله (ص) وأصحابه ورهطه والقيام على ما تعاقدو عليه. فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب:
إن الأولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذي أجمعتم عليه من قطيعتنا أقرب للخبث والسحر، ولولا الذي أجمعتم فيه من السحر لم تفسد الصحيفة وهي في أيديكم، فما كان لله عز وجل من اسم هو فيها طمسه، أفنحن السحرة أم أنتم، فندم المشركون من قريش عند ذلك.
وقال رجال: منهم أبو البحتري وهو العاص بن هشام بن الحارث بن عبد العزى بن قصي، ومنهم المطعم بن عدي، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي، وكانت الصحيفة عنده، وزهبر بن أمية، وزمعة بن الأسود في رجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم كانوا قد ندمو على الذي صنعوا فقالو: نحن برآء من هذه الصحيفة. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل) (1).
(
…
وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم، ويمتدح النفر الذين تبرؤوا منها وقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي) (2).
وقال ابن هشام عن زياد وعن محمد بن إسحاق: (فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله (ص) قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا. وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم. فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله (ص) وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا إليهم وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك. ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم .. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب. فدخلوا معه في
(1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزيبر 115؛116.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 94/ 3، وقد أوردها متقاربة تماما من مغازي موسى بن عقبة عن الزهري.
شعبه واجتمعو إليه. وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم) (1).
1 -
أسلوب المقاطعة الذي مر آنفا من أغرب الأساليب وأخطرها في مواجهة الدعوة، وهو يتكافأ مع مدى القوة التي وصلت إليها الدعوة في محاولة من المحاولات اليائسة للإجهاز عليها وإفنائها، وإن كان أسلوب الاغتيال ينال شخص قائد الدعوة وعصبها الرئيسي، فأسلوب المقاطعة يتناول كل فرد فيها، بل يتناول كل فرد يناصرها أو يذوذ عنها أو يتعاطف معها.
2 -
وما يفعله الطغاة اليوم في مواجهة الدعاة إلى الله من حرمانهم من أبسط حقوق حياتهم؛ حق العمل لكسب القوت، يطردونهم من وظائفهم ليموتوا جوعا، ويستلبون بيوتهم وممتلكاتهم، والحكم بالسجن والقتل على كل من تتحرك له دوافع الإنسانية في أن يجمع مالا لإطعام عائلاتهم المنكوبة، واعتباره مجرما مثلهم، بل يحرمونهم حتى من حق الهجرة أو الفرار فيحتجزون وثائقهم وجوازات سفرهم، ويوزعون صورهم وأسماءهم على كل مكان أو مركز من مراكز مغادرة بلدهم، ليفنوهم عن آخرهم .. كل هذه الأمور في الحقيقة صور من صور المقاطعة لإبادة الدعاة إلى الله واستئصالهم عن بكرة أبيهم.
3 -
ولا يشتفي الطغاة بذلك حيث يمتد سلطانهم فيعملون لدى حلفائهم لإخراجهم من دولهم، أو تسليمهم لهم، ويصادرون أفكارهم وكتبهم في
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 350، 351.
كل مكان، والدعاة محصورون في كل أرض، وتحت كل سماء، لا يجرؤ أحد أن يمد لهم يد العون حتى لا يلقى مصيرهم نفسه {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (1).
4 -
أما ظاهرة أبي طالب، وبني هاشم، وبني المطلب فهي ظاهرة فريدة كذلك، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد (ص)، بل واستفاد من كونه عميد بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت تأييدا لرسول الله (ص) مسلمهم ومشركهم على السواء، وأرسل القصائد الضخمة التي تهز كيان المجتمع القرشي هزا في الموقف الصلب الذي يقفه:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
…
ولما نقاتل دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله
…
ونذهل عن أبنائنا والحلائل.
5 -
وانتصر بعد ذلك في غزو أعماق المجتمع القرشي حيث تحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل؛ أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم وبني المطلب.
وكان فرعون الأمة زعيم المقاطعة أبو جهل في صراع عنيف مع أبي طالب وحلفائه، يخشى أن تنهار المقاطعة، ويلاحق كل من يتعامل معهم، فلما لقي (حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي عند رسول الله (ص) في الشعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تذهب أنت وطعامك
(1) التوبة/32.
حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل؛ فأبى أبو جهل ذلك حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه وشجه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله (ص) وأصحابه فيشمتوا بهم) (1).
ونحن إذن أمام ظاهرة هؤلاي الخمسة الذين انبثقوا من المجتمع الجاهلي، صحيح أنهم لم يكونوا على مستوى بني هاشم وبني عبد المطلب، لكنهم استطاعوا أن يرفعوا هذه الظلامة وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا به.
والذي نود الإشارة إليه أن كثيرا من النفوس والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة السانحة لمواجهته، وواجب الدعوة إلى الله أن ترصد هذه النوعيات، وتنفذ إلى أعماقها، وتشرح لهم قضيتها، وتفضح الحقد الذي يحرك خصومها، فقد تستطيع من خلالها أن تغير وضعا كاملا، أو تهيئ لانقلاب في الأوضاع والأشخاص يجعل الدعاة إلى الله والدعوة من أمن وحرية وقوة. تعجز من خلال المواجهة المباشرة عن تحقيقه.
(1) السيرة النبوية لابن هشام 354/ 1.
6 -
ولا يفوتنا من طرف آخر، أن نتحدث عن أبي لهب كظاهرة تتكرر في خط سير الدعوة، ويقف في الطرف النقيض من أبي طالب. وكان المأمول به أن يكون سند الدعوة الأول، فلا بد أن تحذر الدعوة أمثال هذا النماذج، فقد تجد من أقرب حلفائها من يقلب لها ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير مما تلقاه من خصومها الألداء الأشداء.
***