الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار ابن ياسر فيهم.
وكان مما قيل من الشعر في الحبشة، أن عبد الله بن الحارث بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا، وقد أحسن النجاشي جوارهم حين نزلوا به، قال:
يا راكبا بلغن عني مغلغلة (1)
…
من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرىء من عباد الله مضطهد
…
ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة
…
تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز
…
ي في الممات وعيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا
…
قول النبي وعالوا في الموازين
فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا
…
وعائذا بك أن يعلو فيطغوني) (2)
قريش تحاول إعادة المهاجرين إليها:
وما كان لمكة أن تصبر على هذا الموقع الجديد الذي به محمد (ص)، حتى ولو كان في الحبشة.
(1) مغلغلة: رسالة تنتقل من بلد إلى بلد.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 323/ 1 و 330، 331.
قال ابن إسحاق:
حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله (ص) قالت:
لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا فيها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤدى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعحب ما يأتيه الأدم (1)، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا بطريقا من بطاريتقه إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت:
فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن بخير دار عند خير جار، فلم يبق بطريق إلا دفعا إليه هديته، قبل أن يكلما النجاشي .. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى (2) بهم عينا،
(1) الأدم: الجلود، وهو اسم جمع.
(2)
أعلى بهم عينا: أبصر بهم.
وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله ابن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، قالت: فقال بطارقته حوله:
صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما. فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي، ثم قال:
لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانو كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانو على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله (ص) فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعو ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا (ص) كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته (1) فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الذي فارقتم به قومكم، ولم تدخلو به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي
(1) أساقفة: علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم.
الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟
قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، قالت: فقرأ عليه صدر من {كهيعص} قالت: فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته (1)، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم:
إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما.
(1) اخضلت لحيته: ابتلت.