الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن عشر
الهجرة إلى المدينة
أولا: أسبابها:
(عن عطاء بن رباح قال: زرت عائشة مع عبيد الله بن عمرو الليثي فسألناها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم. كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله (ص) مخافة أن يفتن عليه. أما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء) (1).
(قال ابن إسحاق (2): قال كعب بن مالك:
ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله (ص) العقبة، من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج .. فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله (ص) نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة، إحدى نساء بني مازن
(1) البخاري باب هجرة النبي (ص) م 2 ج 5 ص 72.
(2)
رواه ابن إسحاق عن معبد بن كعب (مقبول) من أخيه بن عبد الله بن كعب (ثقة) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.
ابن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (ص) حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج .. إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة في بلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
قال: فتكلم رسول الله (ص)، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال:((أبايعكم على أن تمنعوني بما تمنعون به نساءكم وأبناءكم)) قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (1). فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة (2)، ورثناها كابرا عن كابر (3).
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله (ص) أبو الهيثم بن التيهان
(1) أزرنا: نساءنا، والمرأة يكنى عنها بالإزار.
(2)
الحلقة: السلاح.
(3)
كابرا عن كابر: كبيرا عن كبير، كناية: جيلا بعد جيل.
فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا (1)، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك ويدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله (ص) ثم قال: ((بل الدم الدم والهدم الهدم (2)، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).
قال كعب: وقد كان قال رسول الله (ص): ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم))، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس) (3).
(قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قادة (4):
(أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله (ص) قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالو: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن فدعوه، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل
(1) حبال: العهد والذمة والأمان.
(2)
الدم الدم والهدم الهدم: قال ابن قتيبة: كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك، وهدمي هدمك. أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا. وقال ابن هشام: الهدم: الحرمة، أي: ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم.
(3)
السيرة النبوية لابن هشام 442/ 1، وقد روه أحمد والطبراني بنحوه وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
(4)
عاصم بن عمر بن قتادة: ثقة عالم بالمغازي.
الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؟ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال:((الجنة)) قالو: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
وأما عاصم بن عمر بن قتادة فقال: والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله (ص) في أعناقهم، وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: ما قال ذلك العباس إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول، فيكون أقوى لأمر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان) (1).
وقل الإمام أحمد عن جابر قال:
مكث رسول الله (ص) بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول:((من يؤويني، من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة)) فلا يجد أحدا يؤويه، ولا ينصره .. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه، وذوو رحمه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله (ص) يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه الموسم، فوإعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((تبايعوني على السمع
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 446.
والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني، إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) فقمنا إليه فبايعناه. وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين إلا أنا - فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل، إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مناوأة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط (1) عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها (2) أبدا، قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة) (3).
…
1 -
كما سبق وقلنا من قبل أن الدعوة في مكة وصلت إلى الطريق المسدود، وأن الحبشة على بعدها عن الأرض العربية لا تصلح قاعدة رئيسية للدعوة بمقدار ما تصلح قاعدة احتياطية، ومن الصعب أن تكون قاعدة انطلاق. وكانت المحاولات التي قام بها النبي (ص) مع القبائل العربية المجاورة والنائية ولكن دون جدوى، فقد أعد الله تعالى الخير لأهل يثرب،
(1) أمط: أي نح يدك وأبعدها.
(2)
نسلبها: لا نرفضها ولا نتركها.
(3)
مسند الإمام أحمد ج 3/ 322، و 339. وقال ابن كثير: وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي عن طريق داود بن عبد الرحمن العطار، زاد البيهقي عن الحاكم بسنده، وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)) (1).
وسبق هذه العقبة لقاءان لرسول الله (ص) مع نفر من يثرب كانوا ستة في العام الأول واثني عشر في العام الثاني، حيث بايعوا بيعة العقبة الأولى (2).
والذي دفعهم إلى الاستجابة لرسول الله (ص) ما كانوا يسمعونه من اليهود عن النبي، (فقال بعضهم لبعض:(تعلموا بالله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه) فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك) (3).
والملاحظ أن دعوة النبي (ص) للأنصار، كانت دعوة عرضية، ولم تكن مقصودة، كما رأينا في سعيه لوفود القبائل العربية الضخمة من قبل، وكان وفد يثرب صغيرا مكونا من ستة أشخاص وليس قادرا على أن يتحمل مسؤولية الحماية والنصرة، فلقيهم رسول الله (ص) ودعاهم، وهو
(1) البخاري: ك. مناقب الأنصار 63.ب. هجرة النبي (ص)45.
(2)
انظر السيرة النبوية لابن هشام 428/ 1 - 435.
(3)
المصدر نفسهه 428/ 1،429.
لا يعرف ابتداء لأي قبيلة ينتسبون.
(قال لهم: ((من أنتم؟)) قالوا: نفر من الخزرج. قال: ((أمن موالي اليهود؟)) قالو: نعم. قال: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟)) قالو: بل. فجلسو معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن ..) (1).
فنصر الله تعالى يأتي للداعية من حيث لا يحتسب، والتخطيط البشري واجب، لكن الله تعالى هو الذي يختار لدعوته ودينه ما يحب، والشر الذي كان في يثرب وحرب بعاث فيهم، كانت شرا في ظاهرها، لكن كان من ورائها خير الدهر، أن دفعت أهل يثرب لمبايعة النبي (ص)، عسى أن تجتمع كلمتهم عليه، بعد أن عجزوا عن وحدة كلمتهم في الحروب التي كانت تأكلهم، وإرعاب يهود لهم بالنبي المبعوث الذي يقتلونهم به قتل عاد وإرم. كان في ظاهره بلاء عليهم، لكن كان وراءه خيري الدنيا والآخرة بأن تسارعوا للانضمام إليه قبل أن تسبقهم يهود إليه.
إنها التقادير الربانية يوم يأذن الله تعالى بالفرج من عنده أو التمكين والنصر أن يأتي من قلب المحنة، ويأتي النور من كبد الظلمة، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله.
ولقد سدت السبل أمام سيد الخلق (ص)، بين عدو يتجهمه، وقريب يملك أمره، وكلما كان قاب قوسين أو أدنى من الحماية والنصر، يحال بينه وبين ذلك، بعدو جديد، أو افتراء جديد، أو
(1) الرواية السابقة 428/ 1.
حرب عنيفة من أبي لهب وغيره، وحيث لم يكن يتوقع نصرا ولا قوة لا حماية، لا هجرة جاءه نصر الله وعونه وتمكينه.
والداعية بحاجة دائما إلى أن يستحضر هذا المعنى، وهو يدعو إلى الله، والدعاة في الأرض بحاجة إلى أن يفقهوا هذا الأمر، وهم تتطلع نفوسهم إلى التمكين والنصر من أفق معين، إلى أن نصر الله تعالى قد يأتيهم من أفق آخر، من حيث لا يحلمون لا يتطلعون ولا يحتسبون.
ولا أدل على ذلك من أن رسول الله (ص) لم يطلب منهم الحماية والنصرة، في الوقت الذي أمضى السنوات يرتاد المواسم كما روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه وهو يسأل:((من يؤويني؟ من ينصرني؟)) فلا يجد أحدا يؤويه).
وهنا لم يسألهم عن شيء من ذلك، إنما عرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن فقبلوه.
2 -
وبدت بارقة أمل بين يدي رسول الله (ص)، انتظر عليها حتى العام القادم حيث قدم النفر الاثنا عشر، وبايعوه البيعة الأولى على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب (على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة ....)(1).
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 433، وقد رواه ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب (ثقة فقيه) عن مرتد بن عبد الله بن اليزني (ثقة فقيه) عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنايحي (ثقة من كبار التابعين) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
فالعام الثاني إذن لم تطرح فيه قضية الحماية والنصرة، فليس في الأفق ما يدل على ذلك واثنا عشر رجلا لا يحمون دعوة ولا داعية، في بلد تعج باليهود، وتضطرب بالصراع والخصومات، واكتفى رسول الله (ص) بإسلامهم وبيعتهم على الإسلام بيعة النساء، دون أية مسؤولية.
إنه مهما كانت المهام أمام الدعاة إلى الله، فلا يجوز أن ينسوا أنهم دعاة إلى الله، وأن انضمام أي فرد إلى هذا الدين هو كنز عظيم وربح كبير ((لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) (1).
ومن أجل ذلك، فلا يجوز أن يتحول الداعية إلى رجل سياسة فقط، أو رجل حرب يسعى ليحكم، وانتهى الأمر، فمهمته في الدعوة مرافقة له طيلة حياته، وهذا ما قبله رسول الله (ص) من رجال العقبة الأولى.
لكن أصبح لرسول (ص) موطىء قدم في المدينة، بهؤلاء الأفراد الذين انضموا لهذا الدين، ولا بد له من أن يستفيد من هذه الظروف الجديدة، وهذا الموقع الجديد، ولن يكتفي بدراسة الأمر من قبلهم ولن يغامر بنفسه إلى هناك.
وكما كانت مسؤولية جعفر رضي الله عنه في الحبشة، كان مسؤولية مصعب بن عمير في المدينة (فلما انصرف القوم بعث رسول الله (ص)
(1) البخاري م 2 ج 5 ص 171 ب. غزوة خيبر، ك. المغازي والسير.
معهم مصعب بن عمير .. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرىء بالمدينة).
3 -
والتطور السريع الذي تم في المدينة دفع رسول الله (ص) أن يغير خطته، فبعد أن كان طلب الحماية والنصرة هو الهدف الرئيسي، عند القبائل سواء أأسلموا أم لم يسلموا إذا بالمدينة تصبح قلعة ضخمة من قلاع الإسلام، ولم يتم هذا الأمر مع ذلك بسهولة، ولتشهد تطور الأمر فيها كيف تم. فعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال:
(
…
ثم بعثوا إلى رسول الله (ص) أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يدعو الناس بكتاب الله فإنه أدنى أن يتبع. فبعث إليهم رسول الله (ص) مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة، فجعل يدعو الناس ويفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفون بدعائهم.
ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مرى أو قريبا منها، فجلسوا هنالك، وبعثوا إلى رهط من أهل الأرض، فأتوهم مستخفين، فبينما مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أخبر بهم سعد بن معاذ، فأتاهم فيه ومعه الرمح حتى وقف عليه فقال: علام يأتينا في دونا بهذا الوحيد الطريد الطريح الغريب يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا، فرجعوا، ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مرى أو قريبا منها، فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية، فواعدهم بوعيد دون الوعيد الأول، فلما رأى أسعد منه لينا قال: يابن خالة اسمع من قوله، فإن سمعت منه منكرا فاردده يا هذا منه، وإن
سمعت منه خيرا فأجب الله، فقال: ماذا يقول: فقرأ عليهم مصعب ابن عمير: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} فقال سعد: وما أسمع إلا ما أعرف، فرجع وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر أمر الإسلام، حتى رجع. فرجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه، وقال فيه: من شك فيه من صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى فليأتينا بأهدى منه نأخذ به، فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد ودعائه إلا من لا يذكر. فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها، ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد بن زرارة، فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ، فلم يزل يدعو، ويهدي على يديه حتى قل دار من دور من الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم، فكان المسلمون أعز أهلها، وصلح أمرهم، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله (ص) وكان يسمى المقرى) (1).
ولئن كون إسلام عمر رضي الله عنه قوة للمسلمين، وكذلك إسلام النجاشي، لكن إسلام سعد بن معاذ أدخل قبيلته كلها في الإسلام إلى جانب القوة للمسلمين في كل مكان، وأدى إسلام الكثير من الأشراف في المدينة إلى أن يصبح الإسلام كما قال عروة رضي الله عنه
(1) مجمع الزوائد 42،41/ 6 وقال الهيثمي رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وبقية رجال ثقات، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب عن ابن لهيعة (صدوق خلط بعد احتراق كتبه، وله في مسلم بعض شيء مقرون).
(فكان المسلمون أعز أهلها).
وعودة مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقد خبر المكان والرجال إلى رسول الله (ص) قبل انتهاء العام، والموعد المقرر في أيام التشريق، حيث جاء وفد ضخم من أهل يثرب قرابة الثلاثمائة بينهم ما ينوف عن السبعين من المسلمين يؤكد انطلاقة جديدة للدعوة، وهؤلاء السبعون ونيف إنما يمثلون التجمع الإسلامي الضخم في المدينة، يصلحون للحماية والنصرة، خاصة وهم يحملون مبادىء الدين الجديد.
ورغم أن القوم مسلمون، وجنود ينفذون أوامر الله تعالى ورسوله، لكن هذا لم يمنع من الحوار الدقيق حول المهمة المطلوبة، ومدى قدرتهم على تنفيذها.
4 -
ومن قدر الله أن يكون المفاوض الأول العباس بن عبد المطلب عم رسول الله (ص) وهو على دين قومه (1) ومن أجل ذلك لن يكون الحديث إلا سياسيا بحتا، يتناول موضوع الحماية والنصرة، لا موضوع المبدأ والعقيدة.
وأكد الناطق الرسمي باسم الرسول (ص) شرطه الأول، هو القدر على الحماية والمنعة، وأرادالمسلمون أن يسمعوا من قائدهم رسول الله (ص):(فخذ لنفسك ولربك ما أحببت).
(1) لا يبعد أن يكون العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قد أخفى إسلامه ليبقى قادرا على حماية الرسول (ص)، لكننا نتعامل مع ظاهر النص الذي يؤكد حضوره البيعة؛ وهو على دين قومه.
كانت البداية في تلاوة القرآن، والدعوة إلى الله، والترغيب في الإسلام. أما موضوع البيعة، فكان محددا:((تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم)). وفي الرواية الثانية: كان هناك شروط خمسة للبيعة هي:
(أ)((تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل)).
(ب)((والنفقة في العسر واليسر)).
(ج)((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
(د)((تقولون في الله لا تخافون لومة لائم)).
(هـ)((أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)).
وكان الجواب بالإيجاب:
(نعم والذي بعثك بالحق نبيا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر).
ولأول مرة يجد رسول الله (ص) من يبدي استعداده للحماية والنصر، دون قيد أو شرط.
إن قضية الجهاد في سبيل الله، والاستعداد التام لحماية الدعوة، لا بد أن تتم من خلال العهد والبيعة والميثاق، ولا يكفي فيها الكلام العائم.
وقد علمنا رسول الله (ص) ذلك، حين تمت تلك البيعة بينه
وبين جنوده الذين دخلوا في الإسلام، ولم يكن الدخول في الإسلام، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، ومع رسول الله (ص) يكفي ضمانا لطلب المواجهة مع العدو، والدفاع عن الإسلام ورسول الإسلام.
بل لا بد من النص الصريح في ذلك.
ويخطىء الدعاة إلى الله في عصرنا الحاضر حين يظنون أن قضية الجهاد، ومواجهة الطاغوت والدفاع عن الدعوة والدين تأتي من خلال الكلام العائم، والالتزام بالدعوة.
لقد وجدنا الفرق شاسعا بين بيعة العقبة الأولى والثانية، فالأولى لا تتجاوز التمسك بمبادىء الإسلام، وعدم المعصية، ولكن هذه هي بيعة النساء فيما بعد.
أما العقبة الثانية ففيها تكاليف أضخم، ومشاق أشد.
السمع والطاعة في النشاط والكسل، وهي أكبر من أن لا نعصيه في معروف.
والنفقة في العسر واليسر، فتكاليف بذل المال في العسر واليسر شيء، وأن لا يسرق المسلم شيء آخر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكاليفه وما ينشأ عنه من خطر ومواجهة ومحن شيء وأن يمتنع المسلم عن الزنا والبهتان شيء آخر.
وأن يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم، ولو كلفه قول الحق روحه وحياته وجسده، شيء وأن لا يقتل الرجل ولده شيء آخر.
وأن يمنع رسوله (ص) ويحميه، وينصره كما لو تعرض في نفسه وزوجه وعرضه للموت أو الاعتداء شيء، وأن يمتنع عن الزنا شيء آخر.
إن البون شاسع جدا بين البيعتين، وكلاهما قد تم بين الأنصار وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومن أجل ذلك حين كان الأمر بهذه الخطورة، لم يكن حرجا أن يفتتح الحديث العباس بن عبد المطلب - وهو على دين قومه -ويوضح خطور البيعة ونتائجها.
إن وضوح الهدف أمام الدعاة إلى الله ووضوح تكاليفه هو الذي يصل بهم إليه، وإن مشاق الطريق لا بد أن تكون محسوبة في أي تخطيط للتمكين في الأرض من الدعاة ولمجاهدين. 5 - وزيادة في التوثيق وتبصرة في نتائح هذا الأمر وخطورته، رأينا موقف العباس بن عبادة بن نضلة في الرواية الأولى، والبراء بن معرور في الرواية الثانية، وذلك حتى لا تكون العواطف هي التي تحكم الأمر. إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس.
وعلى نهكة الأموال وقتل الأشرف.
إخراجه مناوأة العرب كافة.
وقتل الخيار، وعض السيوف.
نقاط محددة لا بد أن تكون واضحة في البيعة، وهذه النتائج كلها متوقعة، ومن أجل هذا ذكر بها السيدان العظيمان.
وقبل السبعون البيعة على مناوأة العرب كافة، وحرب الأحمر والأسود من الناس ونهكة الأموال، وقتل الأشرف، وعض السيوف.
ولا بد أن تكون في حس الدعاة إلى الله إن أرادوا أن يكونوا مستخلفين في الأرض، وأن يعملوا لتمكين هذا الدين فها .. هذه المعاني واضحة بجلاء وبصيرة دون لجلجة، ولا غموض.
وهذا هو طريق الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس.
أما الدعوة بلا تكاليف، والتبليغ بلا ثمن، فهو أمر آخر غير قضية الحكم بما أنزل الله، وتحكيم شريعة الله في الوجود.
6 -
فما لنا إن من وفينا بذلك، قال:((الجنة)) قالوا: ابسط يدك نبايعك.
يقابل هذا المعنى تماما: وإن نحن فعلنا ذلك فهل يكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: ((الأمر بيد الله يؤتيه من يشاء)) هذا هو الخط الإسلامي الأصيل، فلا ثمن لهذه التضحيات إلا الجنة، والتمكين هو للدين لا للأشخاص، وذاك هو الخط الجاهلي، الذي يطلب الثمن، نصرا سريعا، ووزرا، ووظيفة، وموقعا، وحكما.
7 -
ومع عظمة سيد الدعاة رسول الله (ص) في حس جنوده، وهم يفدونه بأرواحهم وآبائهم وأمهاتهم لم يمنعهم ذلك من أن يشترطوا لأنفسهم حين تحدث أبو الهيثم رضي الله عنه عن قطع العهود مع اليهود، وربطها بمحمد (ص)، فهل هو خاذلهم بعدها وتاركهم ليهود؟
وكان التزام القائد الأعظم (ص) أمام جنوده بالوفاء ((بل الدم الدم، والهدم بالهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم)).
فأي قائد في هذا الوجود بعد رسول الله (ص) أكبر من هذا الالتزام؟!