الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انصرفت الأحزاب: ((لن تغزونا قريش بعدها بل نغزوهم ولا يغزونا)) (1) فكان كما قال وكانت تلك الشدة خاتمة الشدائد) (2).
أحداث الغزوة:
1 -
(ثم كانت وقعة الأحزاب بعد وقعة أحد بسنتين، وذلك يوم الخندق، ورسول الله (ص) جانب المدينة، ورأس المشركين يومئذ أبو سفيان. فحاصر رسول الله (ص) وأصحابه بضع عشرة ليلة، حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب. وحتى قال النبي (ص) - كما أخبرني ابن المسيب -:((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشأ أن لا تعبد)).
فبينا هم على ذلك أرسل النبي (ص) إلى عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وهو يومئذ رأس المشركين من غطفان، وهو مع أبي سفيان:((أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان، وتخذل بين الأحزاب؟)) فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر فعلت. فأرسل إلى سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وإلى سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج: فقال لهما: ((إن عيينة بن حصن قد سألني نصف ثمركما، على أن ينصرف بمن معه من غطفان، ويخذل بين الأحزاب وإني قد أعطيته الثلث، فأبى إلا الشطر، فماذا تريان؟))
(1) المصدر السابق ص 141.
(2)
حدائق الأنوار ومطلع الأسرار لابن الديبع الشيباني ج 2 ص 592،591.
قالا: يا رسول الله إن كنت أمرت بشيء فامض لأمر الله. فقال رسول الله (ص): ((لو كنت أمرت بشيء لم أستأمركما، لكن هذا رأيي أعرضه عليكما)) قالا: فإنا لا نرى أن نعطيه إلا السيف. قال: ((فنعم إذن)).
قال معمر: فأخبرني ابن أبي نجيح أنهما قالا له: والله يا رسول الله! لقد كان (هذا في الجاهلية ليمر بجر سربه ما يطمع منه في بسرة) أفالآن حين جاء الله بالإسلام نعطيهم؟ قال النبي (ص): ((فنعم إذن)).
قال الزهري في حديثه عن ابن المسيب: فينا هم كذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمنه الفريقان، كان موادعا لهما فقال: إني كنت عند عيينة وأبي سفيان إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا فإنا سنخالف المسلمين إلى بيضتهم، قال النبي (ص):((فلعلنا أمرناهم بذلك)) وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث، فقام بكلمة النبي (ص) فجاءه عمر. فقال: يا رسول الله، إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال. فقال النبي (ص):((على الرجل ردوه)) فردوه، فقال:((انظر الذي ذكرنا لك، فلا تذكره لأحد)) فإنما أغراه، فانطلق حتى أتى عيينة وأبا سفيان، فقال: هل سمعتم من محمد يقول قولا إلا كان حقا؟ قالا: لا. قال: فإني لما ذكرت له شأن قريظة، قال:((فلعلنا أمرناهم بذلك)) قال أبو سفيان: سنعلم إن كان ذلك فأرسل إلى بني قريظة أنكم قد أمرتمونا أن
نثبت. وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة. فقالوا: إنها قد دخلت علينا ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان: إنكم في مكر من بني قريظة فارتحلوا. وأرسل الله عليهم الريح، وقذف في قلوبهم الرعب، فأطفأت نيرانهم، وقطعت أرسان خيولهم، وانطلقوا منهزمين من غير قتال.
قال: فذلك حين يقول: {وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} ) (1).
2 -
ثم إن نعيم بن مسعود .. أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله (ص):((إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة)) فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساوكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم. فلا تقاتلوا مع
(1) المغازي النبوية للزهري 79، 80 وهي رواية عبد الرزاق عن ابن المسيب، وعن معمر عنه. والجميع عدول ثقات.
القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وأنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتمو عني. فقالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت. ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عني، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله (ص) أن أرسل أبا سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة .. فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطوا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى
نناجز محمدا. فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا .. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق .. فأبوا عليهم وخذل الله بينهم) (1).
3 -
عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: (ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله (ص) فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه. فجعل المنافقون يستأذنون النبي (ص) ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة. فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون. ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله (ص) رجلا رجلا حتى أتى علي، وما علي جنة (2) من العدو ولا من البرد، إلا مرط
(1) السيرة النبوية لابن هشام 229/ 2، 231. وقد يبدو بين الروايتين بعض التناقض لأول وهلة، لكن بالتعمق فيهما يبدو أنهما متكاملتان. فالرواية الأولى تشير إلى مظهر نعيم عند المسلمين حيث بقي إسلامه سرا. والرواية الثانية تشير إلى حقيقة دوره كما وجهه الرسول عليه الصلاة والسلام.
(2)
جنة: وقاية.
لامرأتي ما يجاوز ركبتي قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة. فقال: حذيقة! فتقاصرت للأرض فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم. فقمت فقال:((إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم)) قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا قال: فخرجت فقال رسول الله (ص): ((اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته)) قال: فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي. فما أجد فيه شيئا. قال: فلما وليت قال: ((يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني)) قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقوم بيديه على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل. ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله (ص)((لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني) فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي.
ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم. وإذ الريح في عسكرهم وما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضرب بها. ثم إني خرجت نحو رسول الله (ص)، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه. قال: فرجعت إلى رسول الله (ص) وهو مشتمل في شملة
يصلي، فولله ما عدا أن رجعت، راجعني القر وجعلت أقرقف (1).
فأومأ إلي رسول الله (ص) بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله (ص) إذا حزبه أمر صلى. فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون. قال: وأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} يعني الآيات كلها إلى قوله {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} (2) أي صرف الله عنهم عدوهم بالريح التي أرسلها إليهم) (3).
4 -
وعن ابن عباس قال: احتفر رسول الله (ص) الخندق، وأصحابه قد شدو الحجارة على بطونهم من الجوع .. ثم مشوا إلى الخندق فقال:((اذهبوا بنا إلى سلمان)) وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، النبي (ص) لأصحابه:((دعوني فأكون أول من ضربها)) فقال: ((بسم الله)) فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: ((الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة)) ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة. فقال: ((الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة)) فقال عندها المنافقون: نحن بخندق وهو يعدنا قصور فارس والروم) (4).
(1) اقرقف: ارتجف.
(2)
الأحزاب 9 - 25.
(3)
رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل، وقد رواه مسلم في صحيحه مختصرا، كما أورده ابن إسحاق في السيرة 2/ 229 - 231.
(4)
مجمع الزوائد 7/ 131، 132 للهيثمي، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن حنبل ونعيم العنبري وهما ثقتان.
5 -
(عن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي (ص): (والله ما صليتها) فنزلنا مع النبي (ص) بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب) (1).
6 -
وعن جابر بن عبد الله (أن النبي (ص) شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأمر بلالا فأذن فأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن فأقام فصلى العشاء. ثم قال:((ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم))) (2).
7 -
(قالت أم سلمة رضي الله عنها: شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف - المريسيع وخيبر، وكنا بالحديبية وفي الفتح وحنين - لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله (ص) ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة (3)، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فالمدينة تحرس حتى الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفا، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقال محمد بن مسلمة
(1) البخاري ك. المغازي والسير 64 ب. غزوة الخندق 29 ج 5 ص 141.
(2)
رواه البزار بسنده عن محمد بن معمر (صدوق) عن مؤمل (صدوق سيء الحفظ) من حماد (ثقة عابد) وعن عبد الكريم بن أبي المخارق (ضعيف) روى له البخاري تعليقا عن مجاهد (ثقة) عن جابر بن عبد الله.
(3)
الحرجة: المكان الضيق الكثير الشجر.
وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارا وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا، وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا متقرقين، أو مجتمعين بين أيديهم وهم حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي في آخرين. فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعا في وجه واحد، وجاه قبة رسول الله (ص). ورسول الله قائم بسلاحه على فرسه، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله (1). وقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال رسول الله (ص):((عرق الله وجهه في النار)) ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاؤوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم إلى النبي (ص) حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون، فلم تدخله خيولهم، وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله المخزومي وضرار بن الخطاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد، وقام سائرهم وراء الخندق. فدعا عمرو بن عبد إلى البراز - وكان قد بلغ تسعين سنة، وحرم الدهن حتى يثأر بمحمد وأصحابه - فأعطى رسول الله (ص) عليا رضي الله عنه سيفه وعممه (2) وقال:((اللهم أعنه عليهم)) فخرج له وهو راجل وعمر فارسا، فسخر به عمرو، ودنا منه علي، فلم يكن بأسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار.
(1) أكحله: عرق في اليد يقال له عرق الحياة.
(2)
عممه: ألبسه عمامته.
وسقط نوفل بن عبد الله عن فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل، ومر عمر بن الخطاب والزبير في إثر القوم، فناوشوهم ساعة، وسقطت درع هبيرة بن أبي وهب، فأخذها الزبير رضي الله عنه.
ثم وافى المشركون سحرا وعبأ رسول الله أصحابه، فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل وما يقدر رسول الله ولا أحد من المسلمين أن يزولوا عن موضعهم، وما قدر (ص) على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل أصحابه يقولون: ما صليا، فيقول:((ولا أنا والله ما صليت)) حتى كشف الله المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله. وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل المشركين يطلبون غرة - وعليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة فزرق (1) وحشي الطفيل بن النعمان الأنصاري بمزراقه، فقتله كما قتل حمزة رضي الله عنه بأحد) (2).
…
1 -
لقد كانت عودة قريش من أحد - رغم النصر الظاهري الذي حققته - تحمل مرارة الخيبة في عجزها عن استئصال شأفة المسلمين في يثرب، ولذلك استجابت لدعوة زعماء بني النضير لغزو محمد (ص) من جديد، واستجابت غطفان وهي نصف الناس. ومن أجل ذلك سميت الغزوة الأحزاب، والقرآن أطلق عليهم هذه التسمية {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما
(1) زرقه بمزراقه: رماه برمح قصير معه.
(2)
إمتاع الأسماع للمقريزي 231/ 1 - 233.
زادهم إلا إيمانا وتسليما}.
لقد تمالأ العرب واليهود في الجزيرة، وقاد أبو سفيان أضخم جيش شهدته جزيرة العرب الذي كان عشرة أضعاف جيش بدر، وقرابة أربعة أضعاف جيش أحد، إضافة إلى العدو الداخلي يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد، وانضموا إلى الأحزاب.
لقد جاء الكفرة جملة واحدة، وكما وصفهم عليه الصلاة والسلام:((لقد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب)).
وإذن فلا بد أن يقر في حس الدعاة إلى الله أن الكفر كله قد يلتقي في مرحلة من المراحل على إبادة الإسلام والمسلمين، ويتناسى خلافاته، ويتناسى ما يسمى باستراجيته فالمصلحة فوق المبدأ، واليهود الذين شهدوا لقريش أن دينها خير من دين محمد (ص)، وهو نقض لكل الأسس التي قام عليها وجودهم من ربانية الدعوة والرسالة.
وعلى الجماعة المسلمة أن تكون دائما على غاية الحذر من هذه المخططات، لتدرك كيف تواجهها في اللحظة المناسبة، ولا تستسلم خائفة يائسة.
2 -
والخطة أن يطور المسلمون أساليبهم في مواجهة عدوهم، بحيث تكون مكافئة لها بل سابقة عليها. هي قضية خطيرة يجب أن يعيها المسلمون تمام الوعي، والاستفادة من الخبرات، والطاقات الكامنة هي السبيل المناسب لذلك.
لقد كان حضور سلمان الفارسي رضي الله عنه غزوة الخندق أول حضور عسكري له مع النبي (ص)، وكان حضوره في الوقت المناسب حيث عاش المشكلة الضخمة التي تواجه المسلمين، وقدم خبرته بهذا الصدد، فيما كان يفعله الفرس إذا دهموا من عدو. ولم يكن سلمان رضي الله عنه من قادة المسلمين الكبار من المهاجرين والأنصار، وكان قبل قليل مولى لرجل من يهود، لكن الخبرة تؤخذ من مظانها، فالفرس أمة عريقة في القتال والحرب والمواجهة، فلا بد أن يستفيد المسلمون من هذه الطاقات والخبرات.
واستفاد النبي (ص) من هذه الخبرة فطورها إلى أعلى مستوياتها، لقد راد المدينة مع القيادات حوله، واختار الموقع المناسب، وتمت مباشرة تهيئة الوسائل الناقصة من حلفائهم بني قريظة وتم توزيع المهمات على المهاجرين والأنصار، وتحددت الجزئيات كلها، حتى في عمق الحفر ومسافته. وابتدأ التنفيذ على الفور. وهذه هي الإيجابية الفذة في التعامل مع الطاقات والخبرات. وشهد العدو مباشرة بالكفاءة الإسلامية، وبالتفوق النوعي للمسلمين. وقالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها.
وأحبطت هذه الخطة عتاوة الهجوم الشرس على المسلمين من العدو اللدود.
3 -
وحين تبذل الطاقة البشرية كلها جهدا، ومالا وقوة في الدفاع والذود عن الدين، ثم تنقص الوسائل، فالله تعالى هو الذي يرعى جنده وأحبابه.
والمعجزات التي ظهرت للنبي (ص) في حفر الخندق، لتؤكد أن الله تعالى هو الذي يهزم العدو وينصر حزبه.
((لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده)) فهو الذي أطعم الجيش الجائع كله، حين لم يجد الطعام والقوت الذي يعينه في حالة السلم فكيف في حالة الحرب، والمطلوب من المسلمين أن يحفروا هذا الخفدق بأقصر وقت، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي فتت الصخرة - معجزة منه سبحانه -حين عجز المسلمون جميعا عن ذلك، وهو عليه الصلاة والسلام الذي أضاءت له قصور الشام وفادس والروم .. وبشرهم بفتحها، وهم بين براثن العدو يوشك أن يستأصلهم من جذورهم.
إن الله تعالى يطعم جنده ويسقيهم يوم لا يجدون طعاما، إلا عناقا وعدة أرغفة. وهو الذي يبعث الريح والجنود من عنده الذين لا يراهم المؤمنون، ويهزم عدوه وعدوهم بها {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} (1).
وإن الانتقال من هذا الكرب والخوف وإطباق أهل الأرض على المؤمنين إلى أفق {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى
(1) الأحزاب 9 - 11.
الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} (1). إن هذا الانتقال، ليجلي تمامأ الإرادة الربانية حين تريد بالمؤمنين النصر رغم كل القوى العاتية في الأرض ولو بدون قتال.
4 -
الخوف يقع وقد ينال كل النوعيات والمستويات الإيمانية، لكن الموقف الناتج عن الخوف يختلف من إنسان لآخر، وهنا موضع القدوة والأسوة.
فالمؤمنون في الخندق خافوا، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. فالمؤمنون الصادقون الصديقون رغم ما وقع بهم من الخوف والفزع قال الله تعالى عنهم:{ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} (2).
أما المنافقون الذين أصابهم الخوف، واقتلع قلوبهم الرعب، فقال الله تعالى عنهم:{وإذ يقول المنافوق والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} (3).
(1) الأحزاب 25.
(2)
الأحزاب 22.
(3)
الأحزاب 12.
فلقد زاد الخوف المؤمنين إيمانا وتسليما، وزاغت عقيدة المنافقين قبل أن يزوغ بصرهم وقالوا:(إن محمدا يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، ولا يأمن أحدنا أن يخرج إلى حاجته، أو لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط)(1).
ومثل هذه القوة وهذا الثبات رغم الهول والفزع موقف سعد بن معاذ من مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة (قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم)(2).
5 -
وكان رسول الله (ص) هو القمة التي لا يرقى إليها أحد في الثقة بالله، والثبات أمام العدو، فعندما بلغ النبي (ص) صحة نقض قريظة للعهد قال:((الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين)).
وفي قلب هذه المحنة، وشدة هذا الهول، قال عليه الصلاة والسلام:((إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق، وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله)) (3).
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 222.
(2)
المصدر السابق 223/ 2.
(3)
مغازي الواقدي 2/ 457 عن صالح بن جعفر عن ابن كعب وأورده ابن كثير عن موسى بن عقبة في مغازيه 123/ 4.
ولا شك أن القائد الواثق بنفسه، الواثق بنصر الله له، الذي يتمالك ويتماسك أمام الهول، هو الذي يستحق القيادة بجدار أسوة برسول الله (ص)، وقد يغفر التزعزع والرعب للفرد العادي، أما القائد الفذ فهو الذي يستطيع أن يرفع معنويات جنوده من الحضيض، ويقارع بهم العدو، أما أن يكون الوهن والعجز لدى القائد، فعل جماعته العفاء.
6 -
حيث أن المعركة معركة عقيدة، فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى وحده أن يكشف الغم، ويزيل الكرب، واللجوء إلى الله تعالى والتذلل له، وطلب النصر منه وحده، هو أمر غير أمر الزلزلة أو التراجع. ولا بد أن يميز في حس المسلم بين هذين الجانبين.
فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله (ص) يوم الأحزاب فقال: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب .. اللهم اهزمهم وزلزلهم)) (1).
وحرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد لصحبه، ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل، لم تهزم بالقتال من المسلمين - رغم تضحياتهم - ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده، بالمسلم الذي أسلم في قلب المعركة، واندفع يخذل العدو، وبالريح التي قلبت قدورهم واقتلعت
(1) البخاري ك. المغازي 64 ب. غزوة الخندق 29 ج 5 ص 142.
خيامهم؛ {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) كان يقول: ((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)) (2).
عن جابر رضي الله عنه قال:
(دعا رسول الله (ص) على الأحزاب في مسجد الأحزاب يوم الإثنين، يوم الثلاثاء يوم الأربعاء. فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء. قال: فعرفنا السرور في وجهه. وقال جابر: فما نزل بي أمر غائظ مهم إلا تحينت تلك الساعة من ذلك اليوم فأدعو الله، فأعرف الإجابة) (3).
7 -
ودعاء رسول الله (ص) ربه، واعتماده عليه وحده، لا يتناقض أبدا مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد بذل عليه الصلاة والسلام جهده لتفريق القوم وفك الحصار. واختار أضعف النقاط وهي غطفان، فليس بين غطفان ورسول الله (ص) حرب مباشرة مع أنها تمثل نصف الجيش، وإنما حركها لذلك الرغبة في الغنيمة أكثر من أي شيء آخر، فإذا
(1) الأحزاب 9.
(2)
البخاري ص 142.
(3)
مغازي الواقدي 2/ 488 وقد رواها عن كثير بن زيد (صدوق يخطىء) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك (ثقة) عن جابر بن عبد الله.
عولجت بالعلاج نفسه، ورأت مصلحتها في ترك حرب رسول الله (ص) فعلت. وقد وقع ذلك، لولا طمع عيينة بن حصن في نصف ثمار المدينة، على بعض الروايات، أو رفض السعدين المصالحة التي لم تبرم بعد، وأرجئت على موافقة السعدين، هو الذي حال دون ذلك، لحكمة أكبر ولله الحمد.
وتوجيه رسول الله (ص) لنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه أن يمضي في تخذيل القوم والإذن له بالخديعة في الحرب كما في روية ابن إسحاق، إنما هي جهد بشري بشري تكلف القيادة به في محاولة لإنقاذ الموقف وتفتيت صف العدو.
8 -
والتضحيات العظيمة التي قدمها المسلمون في حراستهم للخندق، وحراستهم لرسول الله (ص)، وصد الهجوم المتفرق، والهجوم المطبق الذي شنه عليهم المشركون من أبطال المشركين لهو دليل حي على يقظة المسلمين وقيادتهم، حتى ليستمر القتال ذات يوم من السحر إلى هوي من الليل في اليوم الثاني، ويفوت المسلمون الصلوات الأربع ويقضونها لعجزهم عن التوقف لحظة واحدة أثناء الاشتباك المباشر للقتال.
ومواجهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو في ريعان شبابه لبطل قريش عمرو بن عبدود، وشدة شكيمته في قتاله حتى قتله، لتؤكد قدرة المسلمين في اللحظات الحاسمة على مواجهة الصعاب مهما كانت ومقاومة التحديات مهما ادلهمت، فبذل الروح والنفس هو أهون ما يملكه المسلم.
وتبقى هذه الصورة كاملة بجوار النفاق الذي نجم والذي أخذ المساحة الأكبر في سوره الأحزاب في الحديث عن الغزوة، ليتضح أن الصف ليس خالصا كله، وليس نقيا كله، ولا يزال للمنافقين وجود واضح فيه، والذي تصاغر وسقط وانحط أمام تدخل ريب العالمين.
9 -
والانضباط العظيم الذي شهدناه لدى حذيفة رضي الله عنه، ما أحوج الشباب إلى التأسي به في أبرز نقاطه.
(أ) يوم دعا الشباب إلى تخفيف غلوائهم، وهم يتصورون الواقع نظريا، وأنهم لو كانوا هناك أيام رسول الله (ص) لما تركوه يمشي على الأرض، فنزل بهم إلى أرض الواقع في الصف الإسلامي - خيرة أهل الأرض.
(ب) في تحديد مستوى الجندي الملتزم الذي لا ينبغي له أن يتراجع أو يتلكأ أو يعتذر حين يكلف بشخصه وعينه (فلم يكن لي بد أن أقوم حين دعاني رسول الله (ص) باسمي) من دون أن يتهم أحدا بدينه أو يشكك في عقيدته حين كان الأمر تطوعا لا فريضة.
(ج) وفي التزامه يوم وضع سهمه، ولم يكن إلا أن يرمي به أبا سفيان فيقتله، ورنت في أذنه كلمة قائده الحبيب ((لا تحدثن بهم حدثا)) فنزع سهمه وأقلع عن رميه التزاما بأمر قائده.
10 -
وكانت الخندق فعلا نهاية ليل طويل ومحنة قاسية امتدت ما ينوف عن سنتين، كان المسلمون فيها في محن متتابعة، وطمعت العرب بهم بعد أحد، إلى أن آذن الله تعالى بانتهاء هذه المرحلة، حيث بلغت المحنة
قمتها بعشرة آلاف من الأحزاب، للبدء بمرحلة جديدة حددها عليه الصلاة والسلام ((الآن نغزوهم ولا يغزونا)).
وأخذ زمام المبادرة لغزو المشركين، في عقائدهم قبل غزوهم في أجسادهم، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم.
***