الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا.
فبلغه ذلك. فجمعهم في قبة. فقال: ((يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم)) فسكتوا. فقال: ((يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون برسول الله (ص) تحوزونه إلى بيوتكم.)) قالوا: بلى: فقال النبي (ص): ((لو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار.))
فقال هشام: يا أبا حمزة وأنت شاهد على ذلك. قال: وأين أغيب عنه) (1).
…
من فقه الغزوة:
1 -
لقد كانت حنين في حقيقة الأمر امتدادا لفتح مكة. غير أنا أفردناها عن فتح مكة. لأن القرآن الكريم أفردها بالذكر. وتطوى في هذا المجال الفترة الزمنية. بينما يأخذ الحديث عن عبر حنين مداه. لأنها تمثل خطا أصيلا من خطوط مبادىء النصر والهزيمة في الإسلام.
2 -
(1) المصدر نفسه 202 - 203.
(2)
التوبة: 25 - 27.
أ - (لن نغلب اليوم عن قلة)(1) قالها رسول الله (ص)، أو قالها رجل من بني بكر، أو قالها غلام من الأنصار. وحين يقولها النبي (ص) إنما يعني أن الخلل لن يأتي من العدد - والله أعلم - وحين يقولها غيره. فلا شك أن كثرة العدد قد غرته وأعجبته. ورأى أنه لن يكون هزيمة وهذه الأعداد الضخمة قائمة، والتي بلغت اثني عشر ألفا من المسلمين أو أربعة عشر الفا في رواية ثانية. ولم تشهد جزيرة العرب جيشا بهذه الضخامة منذ أن وجدت الجزيرة. وهم مسلمون وفيهم رسول الله (ص). فلن يتطرق إلى ذهن أحدهم وقوع الهزيمة بحال.
ب - غير أن الله تعالى الذي نصر المؤمنين في مواقع كثيرة.
أراد أن يتربى هذا الجيش كله، وبأعداده الضخمة الوافدة الجديدة. على مبدأ - النصر من عند الله - وأن الله تعالى هو الذي يهبه ويعطيه ابتداء. وليس النصر متحققا بكثرة العدد والعدة، وقوة الشكيمة. وإن كانت هذه أسباب يكلف المسلم بها من حيث الإعداد والتهيؤ.
وفي المرحلة السابقة كان هذا الأمر واضحا لهم من الواقع العملي.
ففي كل المعارك التي خاضوها كان عددهم أقل. ففي حسهم النصر من عند الله واقع. لأنهم أقل عددا وعدة. أما الآن. وقد دخل الناس في دين الله أفواجا، وطغى جانب الثقة بالعدد والكثرة والعدة. وضعف
(1) نسبها ابن هشام لرسول الله (ص) عن رجل من أهل مكة. ففي السند جهالة. ونسبها ابن إسحاق إلى رجل من بني بكر والصحيح أن غير رسول الله (ص) هو الذي قالها كما حقق الصالحى في كتابه سبل الهدى والرشاد 5/ 469.
في حس الناس تجريد النصر من عند الله وحده عن أي مفهوم آخر. خصوصا أن كثيرا من هذه الأعداد قد انضمت إلى الإسلام. انطلاقا من قوة النبي (ص) وتمكنه في الأرض بعد الحديبية. ودخوله مكة باعتراف رسمي من قريش. وأعطي الحق لكل قبيلة تود أن تحالف محمدا أو تنضم له. من خلال وثيقة الحديبية. هذه العوامل كلها اجتمعت.
فكونت هذا الخلل في مفهوم - النصر الرباني - فكان لابد من هذا الدرس المباشر. الذي شهده المسلمون كي يتبرأوا من حولهم وقوتهم.
ويكون توكلهم واعتمادهم على الله تعالى واهب النصر. {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده
…
} (1).
3 -
وتتراوح الروايات عن الذين ثبتوا مع رسول الله (ص) بين بضعة أفراد إلى بضعة وثمانين فردا. وهذه الأرقام في أعلاها وأدناها تبقى ذات مغزى هائل حين يثبت قرابة المائة - على الرواية الأكثر عددا - من اثني عشر ألفا. وتعني أن المسلمين من الممكن أن ينتهوا. لولا ثبات النبي (ص) ومن معه. وثبات رسول الله (ص) وإركاض بغلته قبل الكفار.
تعني أنه أشجع الخلق. وتعني أنه اثبت الناس. وإنما تقاس شجاعة الناس به عليه الصلاة والسلام وكما يقول البراء رضي الله عنه: ((ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله (ص) وإن الشجاع الذي يحاذي به)) (2).
والقائد الفذ بثباته هو الذي يستطيع أن يحول الهزيمة نصرا بإذن
(1) آل عمران /160.
(2)
مسلم / ص 1776.
الله. ولقد فعلها رسول الله (ص) مرتين. مرة في أحد، ومرة في حنين. ومرت عليه مرحلة. ليس معه أحد .. وثباته هو الذى يجعل الناس يفيؤون إليه ويتابعون مواجهتهم مع العدو.
4 -
وحين نقف مع النوعيات التي ثبتت مع رسول الله (ص) نلاحظ أنها تمثل خلاصة الصف الأول من المهاجرين والأنصار. كما روى ابن مسعود رضي الله عنه ((فولى الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار. فنكصنا على أقدامنا نحو من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة)). ونلاحظ أنه بين هذه الصفوة المختارة مجموعة جديدة تكاد تكويا من مسلمة الفتح.
نشهد العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. وهو الذي تلقى رسول الله (ص) قبل دخول مكة. وشهد أبا سفيان بن الحارث رضي الله عنه ابن عم النبي (ص). والذي يشهد أول مشهد معه عليه الصلاة والسلام والذي رفض رسول الله ابتداء أن يلقاه وقال عنه: أما ابن عمي فقد هتك عرضي. وكلاهما العباس وأبو سفيان. وولد العباس الفضل.
وأخو أبي سفيان ربيعة بن الحارث. وعلي بن أبي طالب. وهذا الحصن الحصين الذي تماسك حول رسول الله (ص) يحميه هم من أهل بيته. وها هو شيبة بن عثمان الذي أراد أن يهتبل الفرصة لاغتيال رسول الله (ص) في خضم هذه الهزيمة. يصفه فيقول: (فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا العباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج. فقلت: عمه ولن يخذله. ثم جئته عن يساره. فإذا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف. إذ رفع
شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق. فخفت أن يمحشنى. فوضعت يدي على صدري ومشيت القهقرى. فالتفت رسول الله (ص) وقال: ((يا شيب ادن مني، اللهم اذهب عنه الشيطان)) قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي ومن بصري. فقال: ((يا شيب قاتل الكفار)) (1).
وفي لحظة. انضمت لبنة جديدة إلى القلعة التي كانت تحمي النبي (ص). بعد أن كان قد أقدم مصمما على اغتياله.
إن قوة الإيمان والعقيدة. ليس من الضرورة أن يمر عليها الزمن والسنون الطوال حتى تثبت. وأبو سفيان بن الحارث، وشيبة بن عثمان. قد اسلموا ومحضوا الإسلام قلوبهم. وفي أيام أو لحظات وصلوا إلى مصاف السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بثباتهم.
والدعاة إلى الله تعالى. بحاجة إلى تبصر هذه المواقف. وإلى التثبت العميق في حكمهم على الناس. ومدى تمكن الإسلام منهم. بين من آمن خالصا من قلبه. فتغير تركيبه وتكوينه وغدا إنسانا آخر. وبين من دخل الإسلام خوفا أو رغبة. فلا بد أن تصقله الأيام والسنون حتى تتعمق معاني الإيمان في قلبه.
وكانت الطبقة الثانية التي انضمت للطبقة الأولى. هي طبقة الأنصار عموما الذين بلغوا قرابة الألف. وذلك حين توجه النداء من رسول الله (ص).
(1) البداية والنهاية لابن كثير /272/ 4.
((قال أين المهاجرون. والأنصار؟)) قلت: هم أولاء قال: ((اهتف بهم.))) فجاؤوا سيوفهم بأيمانهم كأنهم الشهب.)
ونادى أصحابه وزمزم: يا أصحاب البيعة يوم الحديبية: الله. الله الكرة على نبيكم!
يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج، يا أصحاب سورة البقرة.
(أي عباس ناد أصحاب السمرة - أي الذين بايعوا تحت الشجرة يوم الحديبية - فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطف البقر على أولادها. فقالوا: يالبيكاه، يالبيكاه. فاقتتلوا هم والكفار.)
وهذه المرحلة الثانية من المعركة التي شهدت الهول الأكبر من زخم الهجوم من هوازن، وضراوة الدفاع من هذه الألف.
(فنظر رسول الله (ص) وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: هذا حين حمي الوطيس.
5 -
وقد تحقق الهدف من الدرس. لكن الله تعالى لن يخذل نبيه. فحين كان وحده أو معه بضعة أفراد أو بضعة عشر فردا. كان هذا في حس المسلمين. أما في حس الكفار. فقد كانت آلاف الملائكة تملأ الساحة وتسد الأفق. فلم يشعر المشركون أبدا أن الساحة خالية. وأن الذين بقوا من المسلمين بضعة أفراد أو بضعة عشر. بل كان الرعب يزعزع قلوبهم. وكان السلاح الثاني الذي زلزل الجيش كله بعد نزول الملائكة.
هو سلاح الحصيات أو التراب الذي رمى به رسول الله (ص) المشركين.
(ثم قال: ((انهزموا ورب محمد)) فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. فوالله ما هو أن رماهم بحصياته. فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا).
(ثم قبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوههم وقال: ((شاهت الوجوه)). فما خلى الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة. فولوا مدبرين).
إن الله تعالى قادر على أن ينزل نصره. بدون المسلمين جميعا. وآلافهم المؤلفة. وقادر جل شأنه أن يفعل بقبضة الحصى والتراب. ما يعجز عن فعله عشرات الألوف من السيوف والرماح. وقادر جل شأنه أن يزلزل الأرض بعدوه. من دون قتال.
ولكنها السنة الإلهية. فلم يقاتل الملائكة في حنين. لكنها أبقت المسلمين كثرة في أعين عدوهم. ريثما بدأ توافد المسلمين من جديد.
وحمي الوطيس، واستعرت المعركة. ولم تقض كف الحصباء على المشركين. إنما ملأت عيونهم ترابا ثم راحت سيوف المسلمين تعمل في رقابهم.
وشاءت إرادته تعالى أن يتم النصر ظاهرا من خلال عالم الأسباب. بعد أن حمى رسوله وخذل عدوه حين انقطع عالم الأسباب.
6 -
وفي معركة القلوب برزت أعظم ظاهرتين. وبرزت من خلالهما المستويات الإيمانية الرفيعة. وكانت الأولى: إعادة سبايا هوازن لهوازن. بعد أن تم
توزيعهن على الجيش كله. وعظمة التجربة والتربية النفسية اتنها تمت بعد تملك المسلمين للسبايا. وليس قبل ذلك. حتى تمتحن هذه النفوس بإيثارها. واستعدادها للتخلي عن أعز ما تحب وتشتهي دون أمر أو قسر أو إكراه. بل بمحض الرغبة والاختيار.
وأن يتعنت اثنان أو ثلاثة من قادة القبائل. فهو وضع مثالي كذلك بين المئات الذين أعلنوا تنازلهم دون إكراه ودون مقابل. وذلك من خلال القدوة العملية. ابتداء من رسول الله (ص) ثم أبي بكر وعمر، وانتهاء بعيينه بن حصن والاقرع بن حابس.
وكانت الثانية: يوم اعطيت غنائم حنين. للمؤلفة قلوبهم. وحرم منها الأنصار ولما تزل سيوف الأنصار تقطر من دمائهم. وهم الذين نصروا رسول الله (ص) منذ بيعة العقبة. وفي كلمات خالدات. ختمهن عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون أنتم برسول الله (ص) ..)) فقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. وما زالوا يبكون حتى اخضلت لحاهم.) ولو كان هذا الأمر في غير جيش النبوة وفي غير ميزان الله. لقطع الأمير والقائد قطعا قطعا بتهمة محاباة أهله على حساب القانون. بالسيوف التي مكنت له.
وحين يرتفع الدعاة إلى الله إلى هذه الآفاق العليا من التجرد والإيثار. حين ذلك. يصغي الوجود لهم. فيحكموه. كما حكمه الجيل الرائد من قبل.
ألا ما أروع المحنة التي تكشف المعادن العالية، والآفاق السامية للرجال. فتعطى الدنيا. لتكسب سيدها بلا نزاع.