الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الواقدي - توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموا بإذن الله).
…
وعندي أن ابن إسحاق وهم في هذا السياق، فظن أن الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله (ص) للمسلمين وهو على المنبر بقوله:((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه)) فما كان المسلمون ليسلمونهم فرارا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (1).
…
من فقه الغزوة:
1 -
تكاد تكون كل غزوة من الغزوات تمثل مرحلة من مراحل الدعوة، فإذا كانت غزوة خيبر قد أنهت الوجود اليهودي في جزيرة العرب، فغزوة مؤتة مثلت أول معركة ضد النصرانية في جزيرة العرب، وكانت هاتان الجبهتان قد فتحتا بعد هدنة الحديبية، ولم يكن رسول الله (ص) حريصا على فتح هذه الجبهة لولا الاعتداء الآثم على رسوله إلى الشام.
(وكان سببها أن رسول الله (ص) بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم بالشام، أي فلما زل مؤتة تعرض له شرحبيل بن
(1) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 279.
عمرو الغساني، من أمراء قيصر على الشام. فقال: أين تريد؟ لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم. فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه. ولم يقتل لرسول الله (ص) رسول غيره. فلما بلغ رسول الله (ص) ذلك اشتد الأمر عليه، فجهز جمعا من أصحابه وعدتهم ثلاثة آلاف وبعثهم إلى مقاتلة ملك الروم) (1).
وكما أن بيعة الرضوان التي تعاهد المسلمون فيها على الموت كانت قد تمت ثأرا لعثمان بن عفان رضي الله عنه حين أشيع نبأ مقتله، كذلك كانت غزووة مؤتة ثأرا لرسول رسول الله (ص). وفي رواية ثانية: أن صاحب بصرى رفض الإسلام وقال: من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه.
فتهديده بالمسير إلى المسلمين يقتعضي ردا على مستوى التحدي، فكانت غزوة مؤتة.
إن دم الجندي المسلم مصون، وإن الجماعة المسلمة على استعداد لخوض معركة دامية من أجله، بحيث لا يطل دمه ولا يذهب هدرا.
2 -
وثلاثة آلاف مقاتل، هو أكبر جيش تمكن رسول الله (ص) من إعداده لمواجهة عدوه، وهو ضعف جيش الحديبية، وتحديد قيادات الجيش إشارة
(1) السيرة الحلبية 786/ 2 وإمتاع الأسماع للمقريزي 345 وروايته أن الحارث نزل الشام بكتاب رسول الله (ص) إلى عظيم بصرة وهو الأصح، لأن كتاب قيصر وصله وكان رسوله إليه دحية بن خليفة الكلبي.
واضحة إلى عنف الحرب بين الفريقين .. ومع ذلك فلا يكاد يذكر أمام الجيش الذي وجهه حيث كان عدده في أقل الروايات مائة وخمسون ألفا، وترفعه الروايات الأخرى إلى مئتي ألف أي أنه يزيد قرابة سبعين ضعفا عن جيش المسلمين.
إن الهدف العسكري وراء المعركة، هو إعلام الروم بالوجود العسكري الإسلامي، ولو كان هذا الجيش كله ضحايا المعركة، وهذه الإعدادات والتوجيهات تشير إلى ذلك.
3 -
وموقف المسلمين في معان وتشاورهم حول مواجهة الروم أو التريث في ذلك قد حسم الموقف فيها أحد الأمراء الثلاثة الذي قال: (والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون) ولم يحدث انقسام في الموقف وهذا من أعجب ما شهد التاريخ، أن يستجيب الجيش كله لداعي الجهاد ويقرر المواجهة رغم الفرق الهائل الضخم بين الجيشين، إن الشهادة في سبيل الله التي يحلم بها المؤمنون هي أقوى سلاح يملكونه في الأرض. فحب الموت والجهاد والشهادة في سبيل الله يبقى الغذاء الروحي الأعمق في كل تحركات المسلمين، ولن تستطيع الأمة المسلمة اليوم، والجماعة المسلمة أن تعيد الوجود الإسلامي للأرض، ما لم تعد هذه الروح تسري في الأمة من جديد.
فإذا كانت سمة الأمة المسلمة عند ابتلاعها من عدوها هو الوهن، وهو حب الدنيا وكراهية المولت، فبالمقابل لا بد أن تكون سمة الأمة المسلمة عند بعثها وولادتها من جديد هي حب الموت والشهادة،
وكراهية الخنوع والذل للمحافظة على الدنيا ونعيمها، وأن تكون روح جعفر الوثابة هي التي يزغرد بها الجيل الإسلامي كله:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ويسقط القائد جعفر رضي الله عنه وفي جسده تسعون جرحا ما بين طعنة ورمية، وأن يفقد يديه ليعوضه الله تعالى عنهما جناحين يطير بهما في الجنة، ويكون أول من حاز على لقب - طيار - في التاريخ الإسلامي كله وتفرد به دون الناس أجمعين.
4 -
ومن عادة كل جيش أن ينتهي مع مقتل قائده، وهؤلاء القادة الثلاثة يسقطون شهداء في أرض المعركة، ومع ذلك فيثبت الجيش ويتمالك ويسلم قياده إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه ليقود المعرك.
وفي هدنة الحديبية كان خالد قائد خيالة المشركين، ولما يمر على إسلامه خمسة أشهر فقد أسلم في صفر سنة ثمان للهجرة، وكانت مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة، ويقبله المسلمون قائدا يدير المعركة، حيث رفض ثابت بن أقرم الأقدم سابقة ذلك، فحاجة المعركة الآن إلى قائد عسكري مجرب خبير بالحرب، وخالد هو المؤهل لذلك، ولم يكن من الأمراء وإنما أمر نفسه وأعطاه رسول الله (ص) لقبا ما عرف في التاريخ شبيها له. وما طمع أحد من المسليمن بمثله، ولئن مضى جعفر
رضي الله عنه بلقب الطيار في مؤتة، فقد مضى خالد بلقب سيف الله في مؤتة كذلك. والذين يدعون ذلك كثيرون، أما الذي يملك الشهادة من رسول الله (ص) وحده في الدنيا هو خالد بن الوليد. والجماعة المسلمة بحاجة أن تفقه معادن الرجال وتضع الرجال في مواضعهم وهي تخوض معركتها مع العدو.
والحقد والثأر مقبول من الجاهلين {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} أما الدعاة إلى الله فهم أرفع الناس في هذا الوجود عن الحقد. وصراع خالد سبعة عشر عاما مع رسول الله (ص) لم يمنع أبدا أن يحوز على لقب سيف الله بعد أربعة أشهر أو تزيد على دخوله الإسلام.
وما أحوجنا إلى أن نفقه هذه الدروس، فتضم الجماعة المسلمة في صفها أعظم النماذج البشرية، ولو كانت قبل قليل تصليها نار العداء والحرب، فالإسلام يجب ما قبله.
5 -
((جعل الله الفتح على يديه)) هذا النص من حديث البخاري والنصوص الأخرى ذات السند الصحيح، تؤكد أن مؤتة قد انتهت بفتح وانتصار، وابن إسحاق الذي أخذ برأي المحاجر بين المسلمين والروم بدون نصر، هو الذي روى مقتل قائد جيش العدو مالك بن زافلة، وأخذ نساء الروم سبايا بعد مقتله، وتبقى المعجزة الخالدة، في نصر هذه القلة الفدائية المستضعفة على العدو اللجب الضخم الذي تحرك بمئتي ألف ليئد الإسلام وأهله، وذلك بحكمة خالد وعبقريته يوم غير مواقع الجيش كله، وبثباته وصموده يوم كسرت في يده تسعة أسياف ولم تثبت
إلا صحيفة يمانية. وثبات أغلب الجيش معه حتى اللحظة الأخيرة التي أذن الله تعالى فيها بنصر جنده.
6 -
وهذا لا يتعارض مع الروايات الصحيحة عن فرار فئة من الجيش وصلت المدينة بعد مقتل القيادات الإسلامية، وأن يرويها لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فبنية الرواية نفسها تؤكد أن فريقا من الجيش قد فر، وليس الجيش كله.
والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أحد، وقد استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، وعفا عنهم مثل الذين تولوا يوم مؤتة، بل أخف لأنهم فاؤوا إلى رسول الله (ص)، وهو فئة كل مسلم، وهم الذين قال لهم الرسول (ص):((بل أنتم الكرارون إن شاء الله، بل أنتم العكارون)) في الوقت الذي يعجب المسلم فيه لذلك المستوى العالي للوتيرة الإيمانية في المدينة، حتى الصبيان يشتدون، ويعيرون الفارين بفرارهم، ويحثون في وجوههم التراب، ولولا أن رسول الله (ص) قد عذرهم، واعتبرهم منحازين لقتلوا على يد الغلمان والصبيان، لأن الفرار في حس المسلم لا يقابله إلا القتل.
وحين ترتفع الوتيرة الإيمانية لدى الفتيان الناشئين في الجيل الإسلامي إلى هذا المستوى فلا شك أن هذا التغير هو الكفيل بتغيير حال المسلمين {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} .
***