الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب. فاستلمه خالد. فبعث به إلى رسول الله (ص) قبل قدومه به عليه.
قال ابن اسحاق عن أنس بن مالك: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله (ص). فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعحبون منه. فقال رسول الله (ص) أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا. ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله (ص). فحقن له دمه، وصالحه على الجزية. ثم خل سبيله. فرجع إلى قريته (1).
من فقه الغزوة:
لسنا أمام معركة يسود فيها القتل والضرب والطعان. لكننا أمام معركة نفسية من أعنف المعارك. يتدرب فيها المسلمون على مشاق الحياة وصعوباتها، ويتعلمون فيها على الانضباط، والالتزام التام، بالأوامر والنواهي والجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس.
1 -
لقد كانت تبوك أول تجربة لهذا التجمع الإسلامي الذي امتد في الجزيرة العربية كلها، وبلغت الأخبار إلى رسول الله (ص) (أن الروم قد جمعوا جموعا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة. وأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة وزحفوا، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك. إنما ذلك قيل.
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 525 - 526.
فقالوه) (1) فإذا كان الروم قد عبؤوا كل قواتهم في الأرض العربية للمواجهة. فلابد للمسلمين أن يعبؤا قواتهم كذلك. وحيث أن المسافة طويلة، والمواجهة صعبة. فقد أعلن عليه الصلاة والسلام ابتداء عن اتجاه الغزوة.
(وبعث إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم فبعث بريدة بن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع. وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه، وأبا واقد الليثي إلى قومه، وأبا جعدة الضمري إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث إلى جهينة، ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء والأبسر بن سفيان إلى بني كعب بن عمرو (من خزاعة) والعباس بن مرداس إلى بني سليم.) (2) وحض على الجهاد ورغب فيه.
وبهذه التعبئة التي مثلت أضخم تحرك إسلامي في حياته (ص). (وسار ومعه ثلاثون ألفا، وعشرة آلاف فرس، واثنا عشر ألف بعير. وقال أبو زرعة: كانوا سبعين ألفا، وفي رواية أربعين ألفا)(3).
وكان عنف التجربة في الوقت التي اختير لها (وذلك في وقت عسره من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، يكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله (ص) قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى يصمد له. إلا ما كان من غزوة تبوك. فإنه بينها للناس لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز،
(1) و (2) إمتاع الأسماع للمقريزى 1/ 445 - 449.
(3)
المصدر نفسه 1/ 450.
وأخبرهم أنه يريد الروم) (1) لاشك أن رسول الله (ص) قد حقق ذروة النجاح في هذا الجيش الذي بلغ مائة ضعف جيشه الأول في بدر.
وبدون أن يستعمل الإرهاب والسجن، والإعدام للخيانة العظمى. إنما تم هذا الأمر فقط. من خلال الحث والدعوة والتذكير بالجهاد. وما عرفت أمة في الأرض. تقاد بدافعها القلبي. دون رهبة.
أو رعب أو فتك. كما عرفت هذه الأمة. في هذا الجيل الرائد .. وهذه القيادة النبوية التي غيرت وجه الدين، وجمعت كل الطاقات المسلمة في الأرض العربية. لتكون في مواجهة العدو.
2 -
ومن أين يزود هذا الجيش بالمال؟ إنه يحتاج إلى ميزانية سنوية عامة. وقد سدها أفراد أفذاذ. أغنياء. حملوا أعباء التعبئة المادية. بل بلغ جهد فرد واحد فيه أن جهز ثلث الجيش: (وأول من حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه. جاء بماله كله، أربعة آلاف درهم. فقال له رسول الله (ص): هل أبقيت شيئا؟ قال: الله ورسوله!. وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله .. وحمل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مالا يقال إنه تسعون ألفا، وحمل طلحة بن عبيد الله مالا، وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية، وحمل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة مالا.
وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقا من تمر. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش. فكان من أكثرهم نفقة. حتى كفى ثلث ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة!!
فجاء بألف دينار ففرغها في حجر النبي (ص). فجعل يقلبها ويقول:
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 515 - 519.
ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم، قالها مرارا. ورغب عليه السلام أهل الغنى في الخير والمعروف. فتبادر المسلمون إلى ذلك. حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج. وأتت النساء بكل ما قدرن عليه فكن يلقين في ثوب مبسوط بين يدي النبي (ص) المسك (1)، والمعاضد (2)، والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم، والخدمات. (3)) (4).
وهذه المساهمة العامة التي اشترك بها الغني والفقير، والمرأة والرجل. استطاعت أن تمون الجيش كله. خلال الدافع القلبي كذلك، والترغيب بما عند الله عز وجل.
لقد غدا المجتمع الإسلامي كله أسرة واحدة. يعيش محنته، ويعيش. أمله. وكأنما هو على قلب رجل واحد. ومن شذ. شذ في النار.
والجماعة المسلمة. بحاجة إلى أن تتعلم من هذا المجتمع النبوي. المستوى العالي الذي بلغه في التربية فيجهز أعظم جيش ويمول أكبر جيش بالتذكير. والترغيب فقط. ولابد أن تراجع نفسها في الواقع العملي
(1) المسك: جمع مسكة. وهي السوار تجعله المرأة في يديها وإنما يكون من الذبل والعاج.
(2)
المعضدة: الدملج يكون كالسوار تجعله على عضدها بين الكتف والمرفق.
(3)
الخدمة: الخلخال تجعله في رجلها.
(4)
إمتاع الأسماع للمقريزي / 1/ 446 - 447.
لا في المد الشعوري والعاطفي حين تطرح المواجهة مع العدو. وأن تربيتها صارت على مستوى هذه المواجهة. أم لا. حتى لا تعتورها العجلة، وينتابها الغرور. فتضحي بشبابها قبل الأوان.
3 -
وظاهرة النفاق التي برزت من جديد. مستفحلة. منظمة، مخططة. بعد أن اختفت أو كادت تختفي قبل فتح مكة. ويكفي أن نلاحظ أن القرآن الكريم أفرد لها من المعالجة في سورة التوبة أكثر من نصف السورة. هي أمر طبيعي. تعكس ضخامة الامتداد البشري والمكاني للإسلام. والذي رافق قوة الإسلام وسيادته في الأرض. فلم يعد أمام الناس إلا الإسلام. وكانت وفود القبائل تترى لتعلن إسلامها وانضمامها للمعسكر النبوي، ولا شك أن بعض هذه القبائل أو قياداتها. لم يكن مخلصا في دخوله الإسلام. لكنه لابد أن ينحني للعاصفة، ويسعى بعد ذلك للمواجهة. خوفا على سلطانه، وخوفا على طغيانه أن ينتزع منه.
وبرزت مظاهر هذا النفاق في جوانب شتى.
(أ) في التخلف عن الجهاد. والاعتذار بأعذار واهية. فندها القرآن جميعا، وعراها وعرى أصحابها.
(ب) في التثبيط عن الجهاد، ودعوة الناس للقعود. وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل نار جهنم أشد حرا.
(ج) في اللمز من المطوعين الذين لا يجدون إلا جهدهم. فيسخرون منهم.
(د) في اتهام المنفقين بالرياء. حتى. لا يسلم الصف الإسلامى. ويسود فيه اللغط والغيبة.
(ض) في التشكيك بالمعجزات النبوية أثناء الغزوة. والحرص على مخالفة
الأوامر النبوية ما أمكنهم ذلك.
(و) في محاولة اغتيال رسول الله (ص). ورميه من العقبة عن ناقته.
(ز) في بناء مسجد الضرار لتفريق كلمة المؤمنين. وليكون مركزا لتخطيطاتهم. ووكرا لمؤامراتهم.
(ح) في الهزء والسخرية بالمؤمنين المجاهدين. ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وغير ذلك من المؤامرات والأساليب التي ابتكرتها لهم قياداتهم.
4 -
ولابد من الإشارة إلى أن غزوة تبوك كشفت تفاوت المستويات الإيمانية. خاصة. وهذه الأعداد الهائلة ليست على مستوى واحد من التربية. وظهرت طبقات شتى في المجتمع الإسلامي. ضمن الصف المؤمن نفسه. وهذه المستويات. هي غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وقد تتشابه المظاهر أحيانا بين المؤمنين الضعفاء وبين المنافقين.
يقول ابن كثير رحمه الله. كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام:
(1)
مأمورون مأجورون كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وابن أم مكتوم (وقد تخلفوا بأمر رسول الله (ص).
(2)
معذورون وهم الضعفاء والمرضى والمقلون. وهم البكاؤون. (أي الذين لم يجدوا ما ينفقون لجهادهم).
(3)
وعصاة مذنبون وهم الثلاثة. (كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (وقد تاب الله عليهم) وأبو لبابة وأصحابه المذكورون.
(4)
وآخرون ملومون مذمومون. وهم المنافقون.
وطبقات هذا المجتمع الإسلامي. حين نأخذها عن سورة التوبة.
نلاحظ أنها كما يلي:
(1)
(2)
(3)
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} ) (3).
(4)
{وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} ) (4).
والطبقة الرابعة تاب الله عليها فيما بعد {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضافت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم} ) (5).
(5)
الذين عذرهم الله تبارك وتعالى ابتداء: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما يفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك
(1) و (2) و (3) التوبة 100 - 102.
(4)
التوبة.
(5)
التوبة / 118.
لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}) (1).
وهذه الطبقة الخامسة. تكاد تنضم إلى الطبقة الأولى. فقد قال فيهم رسول الله (ص):
(عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: ((إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم))). فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة. حبسهم العذر))) (2).
وإذا كان الأمر يقتصر في النهاية على ثلاث طبقات هي: السابقون، والمقصرون، والمنافقون.
لكن تفاوت المستويات الإيمانية يبقى كبيرا جدا بين السابقين الأولين والمقصرين. وكما يقول القرآن الكريم في موطن آخر: {
…
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق للخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير}) (3) لكن الذي نقوله: أن الطبقة الأولى هي الطبقة التي يقوم على أكتافها تربية الطبقة الثالثة. وهي التي تمثل القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي. وهي التي تهضم الطبقة الثالثة. وتضمها إلى صفها. وكذلك تقلص الطبقة الثانية بحيث تكون قادرة على استيعاب عناصر جديدة. تجعل القاعدة الصلبة في اتساع دائم.
(1) التوبة /91 - 92.
(2)
البخاري له 64/ب 81/ ج 6/ ص.1.
(3)
فاطر /32.
يقول سيد رحمه الله:
5 -
(وكان لغزوة تبوك أثر معنوي ضخم صحيح أنه لم يجر فيها قتال ولا طعان. ولكن هذه القوة التي وصفها الله تعالى {
…
ترهبون به عدو الله وعدوكم
…
}) قد أدت مفعولها. فإذا ركائز النصرانية في أرض العرب تأتي لتسالم النبي (ص). ويأتي وفد إيلية ممثلا للنصارى في جزيرة العرب يعلن مهادنته لدولة الإسلام. وكما ورد في المصالحة. أنه يشمل (من كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر). كما صادف وصول رسول قيصر امبراطور الروم إلى تبوك ليعلن نفس الهدنة. وبذلك دانت جزيرة العرب كافة للإسلام.
ليس مهمة القوة في الإسلام أن تدمر وتقتل وتسفك. إنها القوة الرادعة المرهوبة الجانب التي تمكن الحرية للناس فيعبدون الله كما يشاؤون. وهي القوة التي تلجم الطغاة الذين يريدون فتنة الناس عن دين الله. ولابد أن يدرك الدعاة إلى الله. أن طريقهم حتى يؤتي ثماره، ويحقق جناه. لابد أن ينتهي إلى ما انتهى إليه الجيل الأول. وتكون دولة الإسلام المرهوبة الجانب. هي التي تحمي الدعاة في كل أرض. وتمكن الناس من وصول شريعة الله إليهم. والتمتع بثمار حكمها في الأرض. والدعوة التي لا تسير على منهج النبوة. لن تصل إلى ما تريد. فلن يحق الحق ويبطل الباطل إلا بالقوة التي تفعل ذلك:{ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} ).
وقوة خالد الفدائية التي اختطفت ملك دومة الجندل أكيدر بن عبد الملك. جاءت به. ليعلن مصالحته. وهدنته مع النبي القائد
صلوات الله عليه. وتدين العرب قاطبة لله ورسوله.
6 -
وتوبة كعب رضي الله عنه. وما حملت في آفاقها من معاني السمو، والاعتراف بالخطأ. وتعاليه عن الدنيا التي تتراقص له بدعوة ملك غسان له (أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك. ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة. فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها) (1) وصبر على عقوبة الله تعالى له. حتى أن أعز إخوانه له لا يكلمه. وحتى زوجته يأتيه الأمر النبوي (إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أما ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها) فهو على استعداد لطلاق زوجته وأم ولده. وصبر لا يوما أو يومين. بل خمسين ليلة على هذا الحال، منها عشر ليال بمقاطعة امرأته له إلى أن جاءه الفرج بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت. ونزلت توبته من السماء. وتقدم فقال:(يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله).
ويكفي أن نذكر أن كعبا رضي الله عنه وأرضاه. كان من الطبقة الثالثة (المرجون لأمر الله إما أن يتوب عليهم وإما يعذبهم) لتخلفه عن غزوة تبوك دون عذر. وهو ممن شهد بيعة العقبة). فإذا كان هذا مستوى الطبقة الثالثة في الصدق. والولاء لله ورسوله. والالتزام في تنفيذ أشد العقوبات عليه. واستعداده لطلاق امرأته. وتخليه عن ماله. طاعة لله ولرسوله. فعلينا أن نفكر كثيرا. لنقارن بين أعلى المستويات الإيمانية عندنا والتي لا ترقى أبدا إلى أدناها هناك. وكم علينا أن نجاهد أنفسنا.
حتى نقترب من ذلك المستوى الإيماني التربوي الرفيع.
(1) البخاري 64 ص 7.