الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني عشر
مراحل الدعوة
(قال ابن القيم:
فصل في ترتيب الدعوة ولها مراتب:
المرتبة الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر. وأقام (ص) بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا، ثم نزل عليه:{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} فأعلن (ص) بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن لهم بالهجرتين) (1).
وقال ابن إسحاق: (ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله (ص) أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعو
(1) زاد المعاد 1/ 34.
إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله (ص) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه، ثم قال الله تعالى له:{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (1) وقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (2). {وقل إني أنا النذير المبين} (3)) (4).
وعن أبي هريرة ورضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله (ص) قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص فقال: {يا بني كعب بن لؤي انقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب انقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس انقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار. فإني لا أملك من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)) (5).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله {وأنذر عشيرتك الأقربين} أتى النبي (ص) الصفا فصعد عليه ثم نادى: ((يا صجاحاه)) فاجتمع الناس إليه؛ بين رجل يجيئ وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله (ص):((يا بني عبد المطب، يا بني فهر، يا بني كعب: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أصدقموني؟)) قالوا: نعم،
(1) الحجر: 94.
(2)
الشعراء: 214، 215.
(3)
الحجر: 89.
(4)
السيرة النبوية لابن هشام 260 - 263.
(5)
مسلم ك. 3ب. 348/ 89.
قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) فقال أبو لهب - لعنه الله -: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟! وأنزل الله عز وجل:{تبت يدا أبي لهب} ) (1).
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص): {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} قال رسول الله (ص): ((عرفت أني إن بادرت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار)) قال علي: فدعاني فقال: ((يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادرتهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فصمت عن ذلك، ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك، فاصنع لي يا علي شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس (2) لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب)) ففعلت فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث. فقدمت إليهم تلك الجفنة. فأخذ رسول الله (ص) منها جذبة فشقها في أسنانه ثم رمى بها في نواحيها، وقال:((كلوا بسم الله)) فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم. والله إن كان الرجل ليأكل مثلها، ثم قال رسول الله (ص):((اسقهم يا علي)) فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا. وايم الله إن كان أحدهم ليشرب مثله. فلما أرد رسول الله (ص) أن يتكلم بدره أبو
(1) البخاري ك. التفسير، سورة الشعراء 6/ 139، ومسلم ك. 1 ب. 89 ح. 355.
(2)
عس لبن: قدح لبن.
لهب لعنه الله فقال: لهد (1) ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله .. فلما كان من الغد قال: ((عد لنا مثل الذي كنت قد صنعت لنا)) .. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله .. و .. فلما كان من الغد قال رسول الله (ص): ((يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا) .. ففعلت ثم قال رسول الله (ص): ((يا بني عبد المطب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة)(2).
قال ابن كثير: (والمقصود أن رسول الله (ص) استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهار، وسرا وجهرا، لا يصرفه عن ذلك صارف، لا يرده عن ذلك راد، لا يصده عن ذلك صاد. يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم، ومحافلهم، وفي المواسم، ومواقف الحج .. يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي وغني وفقير .. جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء) (3).
…
1 -
لقد ابتدأت الدعوة سرا، واستمرت ثلاث سنين، انضم إليها في هذه المرحلة ما يقرب من ستين ما بين رجل وامرأة، وكانت الدعوة تتم عن طريق الاصطفاء والتخير. وبذلك تكونت القاعدة الأساسية للدعوة،
وتمت تربيتها في دار الأرقم، وفي شعاب مكة حيث يخرجون للصلاة. والوحي يتنزل عليه (ص) من دون أن يكون هناك مواجهة بينهم وبين
(1) لهد: أي لنعم ما سحركم.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 2/ 44 عن دلائل النبوة للبيهقي 2/ 179، 180.
(3)
البداية والنهاية لابن كثير 2/ 45.
الكفار. اللهم إلا ما ذكر عن سعد رضي الله عنه، عندما طلع عليهم بعض الكفار وهم يصلون (فناكروهم، وعابو عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى بعير فشجه. فكان أول دم هريق في الإسلام)(1).
2 -
وحين نراجع هذا الرصيد من المؤمتين في هذه المرحلة، نلاحظ أنهم العمود الفقري في الإسلام. وهم الذين حملوا عبء قيادة المجتمع الإسلامي فيما بعد .. وكم كانت عظمة التربية التي تلقوها تؤهلهم ليكونوا صناع التاريخ الإسلامي فيما بعد. وإن كان أغلبهم في هذه المرحلة في حوالي سن العشرين أو أقل. وكان قرابة ثلثهم من النساء.
3 -
وما أعلن القوم عن وجودهم إلا بعد الأمر بالصدع بالدعوة، حيث قام أبو بكر خطيبا بالمشركين في الكعبة، ولم تكن المحن، والتعذيب الذي يلقونه، والفتنة التي يتعرضون لها، لتصدهم عن سبيل الله، أو تفتنهم عن دينهم بل كانت تزيدهم صلابة في الحق، وثباتا على المبدأ، ولم يعرف تاريخ هذه العصبة المؤمنة، التي أصبحت مستعصية على الإبادة، من انحراف أو تزلزل أو ضعف أو وهن، إلا ما ذكر عن عبيد الله بن جحش (2).
4 -
وكان الانتقال إلى مرحلة الجهر بالدعوة بعد أن أصبحت القاعدة الصلبة
(1) السيرة النبوية لابن هشام 263/ 1.
(2)
عبيد الله بن جحش، هو الذي ارتد عن الإسلام في الحبشة، ودخل النصرانية، ومات كافرا، وكان ممن هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.
مستعصية على الإبادة، ولها من القوة والصلابة والجذور في الأعماق ما يجعلها أقوى من الإفناء. ولو كان الصدام قد ابتدأ منذ اللحظات الأولى وفي المرحلة السرية لأوشك أن يقضي على كل قواعد الدعوة.
5 -
ومع ذلك فلم يكن الانتقال مفاجئا بأن تكون الدعوة إلى كل العرب، لقد كانت المرحلة الثانية .. هي دعوة الأقربين {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} .
وكما أوردنا فيما ذكر من قبل على أن الدعوة كانت على مرحلتين:
- الأولى: للأقربين الأدنين من بني هاشم وبني عبد المطلب.
- الثانية: لقريش كلها، وهي التي تمثل معظم أهل مكة في ذلك الوقت.
وقد وضحت الحكمة أكثر ما تكون في هذه المرحلة، فقد كان رصيد الدعوة مكونا من فريقين:
- الفريق الأول: المؤمنين المخلصين {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وهم الرعيل الأول الذين تحدثنا عنهم، وكانوا مبثوبين في كل عشائر مكة.
- الفريق الثاني: من الأقربين الأدنين وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب بشكل أخص، وبنو المطلب. وكان أبو طالب سيد هؤلاء جميعا. وعندما ادلهمت الخطوب جمعهم جميعا ليكونوا صفا وحدا لحماية الرسول (ص) - قائد الدعوة - مسلمهم ومشركهم على السواء، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو لهب لعنه الله، الذي بادى رسول الله (ص)
بالعداوة وانضم لقريش في حربها للإسلام، وقد رأيناهم جميعا يوم تم قرار المقاطعة من قريش، حيث تناول أتباع محمد المؤمنين من جهة، وبني هاشم وبني المطلب حماة رسول الله (ص) من جهة ثانية، وكان الفريقان في شعب أبي طالب.
7 -
والذي نشأ عن تعميم الدعوة لقريش كلها، أن انضم إلى الدعوة روافد جديدة من بطون قريش التي بلغت اثنا عشر بطنا (1) رفعت رصيد الدعوة إلى قرابة الثلاثمائة (2) بين رجل وامرأة، رغم الحرب التي خاضتها قريش بقياداتها الرسمية ضد رسول الله (ص) ودينه ودعوته.
وبغض النظر عن أعداد العدو، فإن كل مسلم في هذه المرحلة من البناء يعدل العشرات من المشركين بل المئات.
8 -
ويوم توجه رسول الله إلى العرب الذين ما آتاهم من نذير يدعوهم إلى الإسلام، كان هذا الرصيد الكبير من قريش، والأفراد المبثوثين من القبائل العربية الأخرى، كان درعا واقيا للدعون، وقادرا على الموجهة مهما عظمت تكاليفها، وإن كانت المواجهة المسلحة لم تتم مع قريش، إلا بعد انضمام الرصيد الأكبر من الأنصار والذي واجه العرب قاطبة يوم غزوة الأحزاب.
(1) هذه البطون الاثنا عشر هي: مخزوم، تيم، سهم، جمح، زهرة، عدي، عبد شمس، نوفل؛ هاشم، المطلب، الحارث، عبد الدار.
(2)
الذين آخى رسول الله (ص) بينهم من المهاجرين إلى المدينة كانوا قرابة تسعين رجلا، والذين هاجروا إلى الحبشة كانوا ثمانين رجلا واثني عشر امرأة. وكثير من المسلمين بقي مسلما في قومه حتى انتصرت الدعوة.
9 -
هذا وإن كل دعوة للإسلام اليوم تنطلق بين أن تتبع خطا الدعوة الأولى في انتهاج المرحلية والتدرج في الأمر، سوف يكون الإخفاق حليفها ولا يعفيها صدق النية وسلامة الطوية من جسامة المسؤولية.
***