الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا: التعجيز:
قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشرف قريش من كل قبيلة، كما حدثني بعض أهل العلم (1) عن سعيد بن جبير عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام ولأسود بن المطلب بن أسد وزيعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهمبان وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم (2)، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثو إليه:
إن أشرف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم؛ فجاءهم رسول الله (ص) سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالو له:
(يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من
(1) ذكره ابن كثير في رواية البيهقي وهو محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة 67/ 3.
(2)
الملاحظ أنه ليس فيهم هاشمي واحد.
العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي من أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا (1)
…
إلخ.
وقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عنا تقول أهو حق أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه:((ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم)) قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك: سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
(1) سبق أن ذكرناه في الفقرة السابقة فلا داعي لإعادته.
فقال لهم رسول الله (ص): ((ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال -فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم)).
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ..
فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، قال: فقال رسول الله (ص): ((ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل)). قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد. وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله (ص) قام عنهم. وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمته - فهو لعاتكة بنت عبد المطلب - فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا منزلتك عند الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل. فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيها وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت هذا ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله (ص). وانصرف رسول الله (ص) حزينا
آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه) (1).
وقال الإمام أحمد حدثنا
…
عن ابن عباس قال: (سأل أهل مكة رسول الله (ص) أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا؛ فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم، قال:((لا. بل أستأني بهم))، فأنزل الله تعالى:{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (2)) (3).
وقال أحمد حدثنا
…
عن ابن عباس قال: (قالت قريش للنبي (ص):
ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال:((أوتفعلوه؟)) قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .. وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة. قال:((بل افتح لهم أبواب التوبة))) (4).
(1) السيرة النبوية لابن هشام 294/ 3 - 298 وأنزل الله تعالى قوله: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشر رسولا} الإسراء: 90 - 93.
(2)
الإسراء: 59.
(3)
مسند الإمام أحمد 1/ 258.
(4)
مسند الإمام أحمد 1/ 345.