المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: عرض نفسه على القبائل - فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي البحث

- ‌أولامباحث تمهيدية

- ‌الفصل الأولمعنى السيرة النبوية وأهميتها

- ‌تعريف بالسيرة النبوية:

- ‌أهمية السيرة النبوية:

- ‌دراسة السيرة عبادة:

- ‌مصادر السيرة:

- ‌أولا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيا كتب السنة:

- ‌ثالثا: كتب السير والتراجم:

- ‌رابعا: كتب الدلائل والشمائل والمعجزات والخصائص:

- ‌خامسا: كتب التاريخ والأدب:

- ‌مدى عناية المسلمين بها:

- ‌وكلمة عن ابن هشام وعمله في سيرة ابن إسحاق:

- ‌السيرة النبوية خلال القرون:

- ‌الفصل الثانيالنبوة

- ‌حاجة البشر إلى الأنبياء:

- ‌حاجتهم إلى خاتم الأنبياء:

- ‌الإيمان هو الأصل والشرك طارئ:

- ‌النبوة اجتباء من الله تعالى واصطفاء:

- ‌الفصل الثالثلمحة عن‌‌ أصل العرب وعقيدتهم

- ‌ أصل العرب وعقيدتهم

- ‌طروء الشرك عليهم:

- ‌عناية الإسلام بسد ذرائع الشرك:

- ‌الفصل الرابعنبذة عن حياة العرب

- ‌أصول العرب:

- ‌ العرب البائدة:

- ‌ العرب العاربة:

- ‌ العرب العدنانية:

- ‌الحالة الدينية:

- ‌الطواغيت:

- ‌الحالة السياسية:

- ‌ الملك باليمن:

- ‌الملك بالحيرة

- ‌الملك بالشام:

- ‌الإمارة بالحجاز:

- ‌الحياة الاجتماعية والخلقية:

- ‌الحالة الاقتصادية:

- ‌الحالة الخلقية:

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

- ‌الفصل الخامساختياره من بيت شرف ونسب

- ‌الفصل السادسيتم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رضاعه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السابععمله ب‌‌الرعيوالتجارة

- ‌الرعي

- ‌التجارة:

- ‌الفصل الثامنحفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة

- ‌لقاؤه مع بحيرا الراهب:

- ‌أمره بستر عورته:

- ‌أمر الجاهلية:

- ‌وقوفه بعرفات:

- ‌الفصل التاسعمشاركته في أحداث قومه

- ‌حضوره حرب الفجار

- ‌شهوده حلف الفضول:

- ‌بناء الكعبة والتحكيم:

- ‌الفصل العاشرزواجه من خديجة

- ‌العهد المكي للدعوة

- ‌الفصل الحادي عشرالوحي

- ‌الفصل الثاني عشرمراحل الدعوة

- ‌الفصل الثالث عشرمن أسلوب المخالفين في مواجهة الدعوة

- ‌أولا: التشويه:

- ‌ثانيا: التهديد:

- ‌ثالثا: التعذيب:

- ‌رابعا: الترغيب:

- ‌ المال:

- ‌ الجاه:

- ‌ النساء:

- ‌خامسا: التعجيز:

- ‌سادسا: الاغتيال:

- ‌سابعا: المقاطعة:

- ‌الفصل الرابع عشرسنة الله تعالى في الابتلاء

- ‌ تزكية الفرد:

- ‌ نفي الخبث عن الدعوة:

- ‌ الدعاية لها:

- ‌ جذب بعض العناصر القوية إليها:

- ‌وجوب الصبر على الابتلاء

- ‌الفصل الخامس عشرالاستفادة من قيم الجاهلية

- ‌الفصل السادس عشروطن الداعية حيث مصلحة الدعوة

- ‌الهجرة إلى الحبشة:

- ‌قريش تحاول إعادة المهاجرين إليها:

- ‌تخطيط ذكي جديد:

- ‌مؤامرة جديدة تتحطم:

- ‌ثانيا: عرض رسول الله (ص) نفسه على ثقيف

- ‌ثالثا: عرض نفسه على القبائل

- ‌بنو شيبان:

- ‌الفصل السابع عشرالإسراء والمعراج ودلالتهما

- ‌حديث الإسراء

- ‌حديث المعراج

- ‌الفصل الثامن عشرالهجرة إلى المدينة

- ‌أولا: أسبابها:

- ‌ثانيا: التخطيط لها وأهميتها في تاريخ الدعوة:

- ‌ تهيئة الركب:

- ‌ شراء البعيرين وعلفهما:

- ‌ جاء في نحر الظهيرة:

- ‌ مجيئه مقنعا:

- ‌ الأمر بإخراج الناس من البيت:

- ‌ تهيئة الزاد:

- ‌ الخروج من خوخة أبي بكر:

- ‌ كتمان الأمر:

- ‌ الخروج إلى الغار:

- ‌ عبد الله يتلقط الأخبار:

- ‌ عامر بن فهيرة يعفو على الأثر:

- ‌ ابن فهيرة وغنمه للزاد كذ

- ‌ رسول الله (ص) لا يبيت على فراشه:

- ‌ مبيت علي رضي الله عنه في الفراش:

- ‌ اختيار الدليل المناسب:

- ‌ اختيار طريق الساحل:

- ‌ الهادي على الطريق:

- ‌ حيلة أسماء في المال:

- ‌أهمية الهجرة في تاريخ الدعوة:

- ‌ثالثا: دور الشباب والمرأة في الهجرة:

- ‌العهد المدني للدعوة

- ‌الفصل التاسع عشرتنظيم المجتمع النبوي

- ‌أولا: بناء المسجد:

- ‌ثانيا: المؤاخاة:

- ‌ثالثا: وثيقة المدينة (الدستور الإسلامي):

- ‌الباب الأول

- ‌الباب الثاني

- ‌الباب الثالث

- ‌ دستور الدولة الإسلامية الجديدة

- ‌ الباب الأول: حقوق وواجبات المسلمين في الدولة المسلمة:

- ‌ الباب الثاني: حقوق وواجبات غير المسلمين في الدولة المسلمة

- ‌ الباب الثالث: أحكام عامة للمواطنين عامة:

- ‌الفصل العشرونالإذن في الجهاد

- ‌أولا: مرحلة كف اليد:

- ‌ثانيا: الإذن في الجهاد:

- ‌ثالثا: أهمية الجهاد في الإسلام:

- ‌الفصل الحادي والعشرونأهم السرايا والغزوات

- ‌أولا: الإحصاء الإجمالي:

- ‌ثانيا: سرية عبد الله بن جحش:

- ‌الفصل الثاني والعشرونغزوة بدر

- ‌أولا: أسباب الغزوة وأهدافها:

- ‌ثانيا: الاستشارة التي غيرت وجه المعركة:

- ‌ثالثا: استقصاء المعلومات عن العدو:

- ‌رابعا: من أحداث الغزوة:

- ‌خامسا: أهمية الغزوة:

- ‌سادسا: آثارها:

- ‌الفصل الثالث والعشرونغزوة أحد

- ‌أسباب الغزوة:

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌قوانين النصر والهزيمة:

- ‌التمحيص في أحد:

- ‌النماذج الإيمانية الرائعة:

- ‌القيادة النبوية العظيمة:

- ‌آثار المعركة:

- ‌ من حيث موقف المسلمين في المدينة:

- ‌ من حيث جرأة العرب على المؤمنين:

- ‌ من حيث الموقف مع قريش:

- ‌كيف عالج القرآن أثر المحنة

- ‌الفصل الرابع والعشرونغزوة الخندق

- ‌أسباب الغزوة:

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌الفصل الخامس والعشرونغزوة الحديبية

- ‌أحداث الحديبية:

- ‌الفصل السادس والعشرونغزوة خيبر

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل السابع والعشرونغزوة مؤتة

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الثامن والعشرونفتح مكة

- ‌ أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل التاسع والعشرونغزوة حنين

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الثلاثونغزوة تبوك

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الحادي والثلاثونمواقف المنافقين من الدعوة

- ‌ النفاق في مكة:

- ‌ بداية التجمع:

- ‌ دورهم في غزوة بني قينقاع:

- ‌ دورهم في غزوة أحد

- ‌ تآمرهم مع بني النضير

- ‌ المنافقون يوم الأحزاب

- ‌ الفريق الأول:

- ‌ الفريق الثاني:

- ‌ الفريق الثالث:

- ‌ المنافقون يوم بني المصطلق

- ‌ بعد الحديبية وفتح مكة

- ‌الفصل الثاني والثلاثونمواقف اليهود من الدعاة

- ‌ الموقف الديني:

- ‌ المواقف السياسية

- ‌المواقف العسكرية

- ‌الفصل الثالث والثلاثونأزواج النبي (ص)

- ‌المرحلة الأولى: حتى الخامسة والعشرين:

- ‌ عنف صبوة الشباب وتأجج العاطفة

- ‌المرحلة الثانية: حتى الخمسين من عمره

- ‌ زواجه من خديجة رضي الله عنها

- ‌المرحلة الثالثة: حتى الخامسة والخمسون من العمر

- ‌ الزواج بعائشة وسودة

- ‌المرحلة الرابعة: من الخامسة والخمسين حتى الستين

- ‌بقية نسائه

- ‌(أ) حفصة بنت عمر رضي الله عنها:

- ‌(ب) زينب بنت خزيمة

- ‌(ج) أم سلمة:

- ‌(د) زينب بنت جحش:

- ‌(هـ) أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌(و) جويرية بنت الحارث:

- ‌(ز) ريحانة بنت زيد:

- ‌(ح) صفية بنت حيي:

- ‌(ط) مارية القبطية:

- ‌(ي) ميمونة بنت الحارث:

- ‌المرحلة الخامسة: من الستين إلى الثالثة والستين

- ‌لم يتزوج فيها رسول الله

- ‌خاتمة

- ‌الفصل الرابع والثلاثونعالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها من السيرة

- ‌ كتب رسول الله (ص) إلى كل ملوك الأرض

- ‌ كتاب هرقل عظيم الروم:

- ‌ كتاب كسرى عظيم الفرس

- ‌ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:

- ‌ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:

- ‌ بقية الكتب:

- ‌الفصل الخامس والثلاثونأخلاقه صلى الله عليه وسلم

- ‌وجوب محبته ومن لوازم محبته اتباعه:

- ‌نماذج من تربيته (ص) لأصحابه:

- ‌الفصل السادس والثلاثونوفاته صلى الله عليه وسلم. وبيعة الصديق

- ‌قبل أربعة أيام: يوم الخميس:

- ‌قبل ثلاثة أيام: يوم الجمعة:

- ‌قبل يوم واحد:

- ‌آخر يوم من الحياة:

- ‌اللحظات الأخيرة:

- ‌جهاز رسول الله (ص) ودفنه

- ‌تكفين رسول الله:

- ‌حفر القبر:

- ‌الصلاة على رسول الله ثم دفنه:

- ‌الفصل السابع والثلاثونبيعة الصديق وحروب الردة

- ‌الانقلاب على العقب:

- ‌إنفاذ جيش أسامة:

- ‌مانعو الزكاة:

- ‌ الكتاب الذي وجهه الصديق إلى هؤلاء المردة المرتدين

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم:

- ‌ثبت المراجع والمصادر

- ‌المحتوى

الفصل: ‌ثالثا: عرض نفسه على القبائل

ولعله لا يكون دورهم إلا تسليم الراية لمن بعدهم يتابع المسير، ولعل النصر من نصيب جيل جديد، هم حداته ومقدمته.

‌ثالثا: عرض نفسه على القبائل

قال موسى بن عقبة عن الزهري:

(فكان رسول الله (ص) في تلك السنين، يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه ويقول:((لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحوزوني فيما يراد لي من القتل، حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء)) فلم يقبله أحد منهم، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به .. أترون أن رجلا يصلحنا، وقد أفسد قومه ولفظوه؟! وكن ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به) (1).

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال:

(لما أفسد الله عز وجل صحيفة مكرهم خرج النبي (ص) وأصحابه فعاشوا وخالطوا الناس ورسول اللهء (ص) في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم كل شريف، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه أو

(1) البداية والهاية لابن كثير 3/ 154.

ص: 266

يمنعوه، ويقول:((لا أكره منكم أحدا على شيء، من رضي الذي أدعو إليه قلبه، ومن كرهه لم أكرهه، إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي، ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء)) فلم يقبله أحد منهم، ولا أتى على أحد من تلك القبائل إلا قالوا: قوم الرجل أعلم به، أفترى رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، وذلك لما أذخر الله عز وجل للأنصار من البركة) (1).

إنها صورة واضحة بينة تؤنكد بحث رسول الله (ص) عن مكان آمن في أرض العرب يحميه حتى يؤدي رسالة ربه سواء أآمن هذا المجير به أم لم يؤمن، ولم تعد مكة دار أمان لرسول الله (ص)، فلا بد من البحث عن موقع جديد، والحبشة تصلح موقعا احتياطيا لا رئيسيا لبعدها عن مركز الانطلاق، وتجمع العرب، ومن الصعب أن تنتشر الدعو ابتداة خارج البيئة العربية.

ومن نماذج هذا العرض ما روه جابر بن عبد الله ضي الله عنهما قال:

كان رسول الله (ص) يعرض نفسه على الناس بالموقف، فيقول هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل، فأتاه رجل من همذان فقال:((ممن أنت؟)) فقال الرجل: من همذان.

فقال: ((هل عند قومك من منعة؟)) قال: نعم. ثم قال: إن الرجل خشي أن يخفره قومه، فأتى رسول الله (ص) فقال: آتيهم أخبرهم، ثم آتيك

(1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزبير 117.

ص: 267

من قابل، قال:((نعم)) وجاء وفد الأنصار في رجب) (1).

(وعن ربيعة بن عباد قال: إني لمع أبي شاب أنظر إلى رسول الله (ص) يتبع القبائل، ووراءه رجل أحمر وضيء ذو جمة، يقف رسول الله على القبيلة، يقول:((يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني، حتى أنفذ عن الله ما بعثني به)) فإذا فرغ من مقالته، قال الآخر من خلفه:

يا بني فلان إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه، فقلت لأبي: من هذا، فقال: عمه أبو لهب) (2).

(وعن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل، قال: لما قدم أبو اليسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله (ص)، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال لهم:((هل لكم إلى خير مما جم إيه؟)) قالوا: وما ذاك. قال: ((أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي كتابا)) ثم ذكر الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا: أي قومي هذا والله خير مما جئتم إليه.

(1) مجمع الزوائد 34/ 6. وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات، وراه رجال السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2)

المصدر نفسه 36/ 6. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد الطبراني وفيه حسين بن عبد الله وهو ضعيف وقد وثقه ابن معين.

ص: 268

قال: فأخذ أبو اليسر، أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس، وقام رسول الله (ص) عنهم، وانصرفوا إلى المدينة فكات وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ..) (1).

كانت المقاومة عنيفة من قريش، ولم تفز بشيء فوزها بأبي لهب - لعنه الله - الذي كان يمضي مع رسول الله (ص) إلى كل مكان يكذبه ويؤذيه، فكانت هذه أضخم دعاية ضد النبي (ص) حين يرون عمه يرد عليه قوله، ويسفه رأيه، ومن أجل هذا رأينا رسول الله (ص) يستعمل الوسيلة نفسها، فيأتي إلى عمه العباس ليرافقه في دعوته.

فقد روى الحافظ أبو نعيم عن العباس قال:

قال لي رسول الله (ص): ((لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة:

فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا، حتى نقر في منازل قبائل الناس؟)) وكانت مجمع العرب. قال: فقلت: هذه كندة ولفها، وهي أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك.

قال: فبدأ بكندة فأتاهم، فقال:((ممن القوم؟)) قالوا: من أهل اليمن، قال:((من أي اليمن؟)) قالوا: من كندة، قال:((من أي كندة؟)) قالوا: من بني عمرو بن معاوية. قال: ((فهل لكم إلى خير؟))

(1) مجمع الزوائد 36/ 6 وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.

ص: 269

قالوا: وما هو؟ قال: ((تشهدون أن لا إله إلا الله، وتقيمون الصلاة، وتؤمنون بما جاء من عند الله)).

قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياء في قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله (ص): ((إن الملك لله يجعله حيث يشاء)) قالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به. وقال الكلبي فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا، وننابذ العرب؟ الحق بقومك فلا حاجة لنا بك. فانصرف من عندهم.

فأتى بكر بن وائل، فقال:((ممن القوم؟)) قالوا: من بكر بن وائل. فقال: ((من أي بكر بن وائل؟)) قالوا: من بني قيس بن ثعلبة. قال: ((كيف العدد؟) قالوا: كثير مثل الثرى. قال: ((فكيف المنعة؟)) قالوا: لا منعة، جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم. قال:((فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبحوا لله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين؟) قالوا: ومن أنت؟ قال: ((أنا رسول الله)) ثم انطلق. فلما ولى عنهم - قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله -مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا. فعن أي شأنه تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا: زعم أنه رسول الله، قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، قالوا: وقد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر.

قال الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه، قال: أتانا رسول الله (ص) عكاظ، فقال:((ممن القوم؟)) قلنا: من بني عامر بن

ص: 270

صعصعة. قال: ((من أي عامر بن صعصعة؟)) قالوا: بنو كعب بن ربيعة. قال ((كيف المنعة؟)) قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يصطلى بناربا. قال: فقال لهم: ((إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي، ولا أكره أحدا منكم على شيء)) قالوا: ومن أي قريش أنت؟ قال: ((من بني عبد المطلب)) قالوا: فأين أنت من عبد مناف؟ قال: ((هم أول من كذبني وطردني)) قالوا: ولكنا لا نطردك، ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك. قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بحيرة بن فراس القشيوي، فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره؟ قالوا: محمد بن عبد الله القرشي، قال: فما لكم وله؟ قالوا: زعم أنه رسول الله (ص) فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه، قال: ماذا رددتم عليه؟ قالوا: بالترحيب والسعة، نخرجك إلى بلادنا، ونمنعك مما نمنع منه أنفسنا، قال بحيرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدءا، ثم لتنابذوا الناس، وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به. أتعمدون إلى زعيق (1) قد طرده قومه وكذبوه، فتؤونه وتنصرونه؟! فبئس الرأي رأيتم. ثم أقبل على رسول الله (ص) فقال: قم فالحق بقومك فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك. فقام نول الله (ص) إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بحيرة شاكلتها (2)، فقمصت برسول الله (ص) فألقته.

وعند بني عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة

(1) زهيق: مطرود ومضيق عليه.

(2)

شاكلتها: خاصرتها.

ص: 271

اللاتي أسلمن مع وسول الله () بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت: يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهكم، لا يمنعه أحد منكم؟ فقام ثلاثة من بني عمها إلى بحيرة، واثنين أعاناه. فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علوا وجوههم لطما. فقال رسول الله (ص):((اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء)) قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه، وقتلوا شهداء وهم غطيف وغطفان ابنا سهل، وحزن بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم، وقد روي هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه عن أبيه به) (1) اه ..

1 -

لقد كان جواب كندة متناسقا مع طبيعتهم، فهم ملوك العرب في اليمن، ومن أجل ذلك كان جل تفكيرهم ينصب على هذا الملك، واشترطوا على رسول الله (ص) ليمنعوه أن يكون لهم الأمر والملك من بعده. وقصاري ما يفكرون به هو استقرار هذا الأمر بيدهم إن نصروا رسول الله (ص) على عدوه فانتصر. غير أن الجواب النبوي المنطلق من مبادىء هذا الدين:((الأمر لله يضعه حيث يشاء)).

فليس الأمر صراعا على الحكم أو تسابقا على السلطة، إن الأمر انتشار هذه الدعوة وتبليغها، وسوف تكون العاقبة للمتقين، فالحماية المشروطة بشرط مغاير لمبادىء هذا الدين، حماية مرفوضة.

ويقظة الدعاة إلى الله في هذا الأمر، وفقههم لهذه القضية هو

(1) البداية النهاية لابن كثير 3/ 154، 155.

ص: 272

الذي يعصهمهم من الانزلاق في منحدرات السياسة، التي تضع الحكم غاية، والعقيدة والدين وسيلة من وسائله.

2 -

وحين لا يحقق الداعية هدفه في تأمين الحماية من سلطة جاهلية، لا ينسى نفسه أنه داعية قبل كل شيء، وأن عليه أن ينقل روح هذا الدين التي تؤكد أنه غالب وحاكم مهما تكاثفت المحن، وادلهمت الخطوب، وأن الباطل زاهق لا محالة. {قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} (1).

وثقة الداعية بالنصر لدين الله - لا لشخصه - سمة أساسية من سمات الدين نفسه لا تنفك عن أن تكون جزءا من منهج الداعية وهو يدعو إلى الله. ولهذا رأينا رسول الله (ص) ولم يصل إلى المنعة التي يريد، أراد أن يعلم هؤلاء القوم الذين ترهبهم سلاطين الأرض من فارس، أنه ستكون لهم الدولة عليهم إن آمنو بالله ورسوله.

وكان هذا الأمر عندما طرح عليهم، وهم في ظل فارس ضربا من الجنون، وبه استشهدو على جنون رسول الله (ص) حين قال لهم:

((فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبحو لله ثلاثا وثلاثين

).

فلم يكن العربي في ذلك الوقت يطمح في أكثر من أن يحظى برضاء كسرى أو قيصر، وأن يكون عميلا مخلصا له، ولم تتحرر هذه

(1) سبأ 49.

ص: 273

النفوس إلا بالإسلام، وبرسول الإسلام الذي زرع في النفوس هذه الثقة العظيمة التي غيرت واقع الأرض كله.

والذين يباهون بذي قار، ولمجد العربي فيه، يجب عليهم أن يعرفوا أن الفضل في النصر فيها لهذا اللقاء المذكور، والذي يرد تفصيلات عنه بعد في رواية أخرى.

قال: (فلم يلبث رسول الله (ص) إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: ((احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم وبي نصروا)) (1).

وقد ورد هذا من طريق أخرى، وفيه أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر - مكان قريب من الفرات - جعلوا شعارهم اسم محمد (ص). فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام) (2).

فهذه الأمة قد ابتعثها الله تعالى من القرآن، وأخرجت إخراجا من أثر هذا الكتاب المنزل على محمد بن عبد الله (ص).

ولم يمر على هذا الوعد الذي وعد به رسول الله (ص) بالنصر عشرون عاما حتى كانت بنات كسرى سبايا في المدينة، ثم كان أن نكحهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن أبي بكر،

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 243. ورواه عن خالد بن سعيد عن أبيه عن جده.

(2)

البداية والنهاية لابن كثير 3/ 159.

ص: 274

فأنجبن سادة أهل الأرض علما وفقها وفضلا - آنذاك - علي بن الحسين زين العابدين، وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر.

3 -

(((إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي، ولا أكرهكم على شيء) قالوا: ولكننا لا نطردك، ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك).

فنحن أمام خط أصيل من خطوط الدعوة، ومرحلة من المراحل تمر فيها، بل تسعى إلى الوصول إليها. وهو أن توجد السلطة المحايدة التي تضمن حرية الدعوة، وحرية التبليغ، والحماية لها من الإبادة والقتل.

ولا شك أن النظام الذي ينطلق في مفاهيمه ومبادئه وأعرافه من حرية الناس في ما يدعون ويعتقدون، ويضمن لهم هذه الحرية، وهو خير قطعا من النظام الذي يقتل الناس على معتقداتهم، ويخنق حرية التعبير عندهم وحرية الرأي.

وقد تجد الدعوة الإسلامية نفسها في مرحلة من المراحل، تسعى وتساهم للوصول إلى هذا النظام، وهو مرحلة سابقة لحكم الإسلام، بل يمكن القول: أن حكم الإسلام غالبا يتم عن هذا الطريق، طريق القوة المحايدة، سواء أآمنت بالإسلام أم لم تؤمن - والتي تخلي بين الناس وبين ما يعتقدون، وعندئذ ستكون الغلبة للإسلام - لا بقوة السيف وإرهاب السلطة، إنما بقناعات الناس وتدينهم لهذا الدين، وعندئذ إذا

ص: 275

خالط الإسلام بشاشة القلوب، فلن يرضى أهله بديلا من حكمه فيهم.

ومن أجل هذا يحسن أن يفقه الدعاة هذا الجانب، فلا تكون الانطلاقة من الحدة والتعميم المتعسف أن كل الأنظمة التي لا تحكم بالإسلام سواء. ويجب حربها جميعا، وإزاحتها، لأنها أنظمة كافرة جاهلية.

لا بد من الوعي لدروس السيرة النبوية وفقهها، أن الحكم على النظام والسلطة - بغض النظر عن الحكم الذي ينطلق منه - إنما يكون من خلال موقف هذا النظام من الدعوة والدعاة، وإمكانية التعايش معه أو مساندته قائمة بمقدار ما يتيح الحرية لهذه الدعوة أن تنتشر وتبلغ، وضرورة المواجهة معه قائمة حين يفرض الحرب المدمرة على دعاة الإسلام لإبادتهم واستئصالهم.

4 -

وتبقى هذه النماذج المذكورة نبراسا أمام الدعاة في الصبر على مشاق الدعوة، وتحمل تبعاتها، فلا يهن الدعاة لصد يواجههم، ولا يستكينوا لمقاومة تود تحطيمهم وتحطم دعوتهم، وأن يوطنوا هذه النفوس على مثل هذه الاحتمالات من المواجهة، والمحاربة، والتشويه، فليس أحد أكرم على الله تعالى من رسوله وقد لاقى ما لاقى. حتى ليهدد بضرب عنقه، ويرمى عن ناقته، وتعبأ المجالس بالدعاية ضده بجنونه وسحره، فهذا هو قدر الدعاة، وهذا هو طريق النصر {إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل

شي قدرا} (1).

(1) الطلاق 3.

ص: 276