الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن المحنة هي التي تمحص القلوب، بكشف ما في الصدور من إيمان أو كفر. وبد يتزلزل المؤمن لكنه لا يفقد إيمانه. قد يفقد موقفه.
وقد يفقد شجاعته وثباته، لكن إيمانه لا يتزلزل أبدا. أما ضعيف الإيمان فينهار إيمانه أمام الحادثات. وأما الكافر المتجلبب بجلباب الإسلام حين يكشف الغطاء، ويرى أن دولة الإيمان على وشك الزوال - كما يبدو له - فيكشف خبيئة نفسه، ويظهر نتن قلبه، ويعلن شكه بدينه ونبيه وربه. وهؤلاء لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم في الدنيا والآخرة.
6 -
المنافقون يوم بني المصطلق
انتصر المسلمون بعد الخندق، وأنهوا وجود بني قريظة. وبذلك انتهى حلفاء المنافقين في المدينة فلم يعد أمامهم إلا أن يسارعوا بالولاء للقيادة المسلمة. وأن يوجهوا جهدهم لخلخلة الصف المسلم نفسه، والعمل على تشتيته وإشغاله بنفسه. عوضا عن أن ينشغل بعدوه. وتظاهروا بالانصهار في هذا الصف. وإن كان بعضهم قد دخل فيه عن قناعة بعد أن بهره نصر الله ورأى من الآيات البينات ما يحرق كل شك أو دخل في قلبه. وكان ابن أبي كالحية الرقطاء يكمن بين الحجارة وخلف الأستار ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض، وكان هذا يوم بني المصطلق:
(عن زيد بن أرقم قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي أو لعمر. فذكره للنبي (ص). فدعاني فحدثته. فأرسل رسول الله (ص) إلى
عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا. فكذبني رسول الله (ص) وصدقه. فأصابني هم لم يصبني مثله قط. فجلست في البيت. فقال لي عمي. ما أردت إلى أن كذبك رسول الله (ص) ومقتك. فأنزل الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون} فبعث إلي النبي (ص) فقال: إن الله قد صدقك يا زيد) (1).
وفي رواية (خرجنا مع النبي (ص) في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) (2).
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة في جيش. فكسع (3) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: ياللأنصار، وقال المهاجري: ياللمهاجرين. فسمع ذاك رسول الله (ص) فقال: ما بال دعوى الجاهلية. قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة.
فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي (ص) فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي (ص): ((دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة. ثم إن المهاجرين كثروا بعد ذلك) (4).
(1) البخاري /ك التفسير 65/ سورة المنافقون/ 63/ ج 6/ ص 189.
(2)
المصدر نفسه ص 190.
(3)
كسع: ضرب دبره بصدر قدمه أو بيده.
(4)
البخارى ك 65 / سورة المنافقون - 63/ ج 6 / ص 194 - 192.
(وكان عبادة بن الصامت قبل ذلك قال لابن أبي: إيت رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه معرضا. فقال له عبادة: والله لينزلن في لي رأسك قرآنا يصلى به)(1).
هنا يبرز دور النفاق الخطير في المجتمع الإسلامي. فعبد الله بن أبي يجد الفرصة سانحة ولن تتكرر له هذه الفرصة الذهبية مرة ثانية في تدمير هذه الجماعة المسلمة ليقوم على أنقاضها. وها هو يهتبل الفرصة فيعبر عما في نفسه. ولكن أين؟ في عشرة من المنافقين، يطمئن إلى نفاقهم، ويطمئن إلى استعدادهم لقبول أفكاره وتنفيذ مخططاته. ولم يعر التفاتا إلى ذلك الغلام الحدث الذي أصغى إلى قوله.
لقد وجدناه في أحد ينفصل بثلث الجيش، ويشكك في البقية الباقية من أتباعه فوق هذا الثلث وهو في قمة مجده، ثم بدأ هذا المجد ينحسر، فيعجز عن نصر حلفائه من بني النضير. ولا يتجاوز دوره التشكيك في النصر وإمكاناته في الخندق. أما اليوم فيبث حديثه في عشرة من أتباعه، ويتحدث عن كل ما يعانيه من بغض للإسلام وأهله، ويدعو صراحة إلى تمزيق الصف والثورة على القيادة. بل يهدد بهذه الثورة التي بدت ملامحها، وذرت قرونها عند العودة إلى المدينة.
ولكن الذي حطم هذه الثورة. هو ابنه عبد الله.
(وجاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله إن كنت تريد قتل أبي فيما بلغك عنه. فمرني به. فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من
(1) إمتاع الأسماع للمقريزي / 203.
مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني. وإني لأخشى يا رسول الله - أن تأمر غيري بقتله. فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار. فقال رسول الله (ص): ((ما أردت قتله وما أمرت به
…
)) (1).
(وقد ذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما: أن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لأبيه عبد الله بن أبي سلول عند مضيق المدينة فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله (ص) في ذلك. فلما جاء رسول الله (ص) استأذنه في ذلك فأذن له. فأرسله حتى دخل المدينة) (2).
لقد كانت عظمة المعالجة النبوية لهذه الفتنة الخطيرة من زعم المنافقين تعطينا أعظم الدروس في سياسة النفوس. وهي التي وأدت الفتنة، ووأدت النفاق معها حتى كاد يتلاشى في المجتمع الإسلامي.
(أ)(لم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله (ص) قد طلع على راحلته.
وكانوا في حر شديد. وكان لا يروح حتى يبرد) (3)(ثم مشي رسول الله (ص) بالناس يومهم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما. وإنما فعل ذلك رسول الله (ص) ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي) (4).
(1) إمتاع الأسماع للمقريزي / 203.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير / 4/ 179.
(3)
إمتاع الأسماع / 202.
(4)
السيرة النبوية لابن هشام 2/ 292.
(ب) من خلال لقائه (ص) مع القيادات. وجد تيارين أحدهما يرى الرفق به والآخر يرى قتله فاختار الرفق به. لأن أصحاب هذا الرأي من الأنصار. وهم أوثق الناس عنده. هذا من جهة. ومن جهة ثانية. فكما أعلن عليه الصلاة والسلام أن سمعة المسلمين لن يضحي بها فتكون هدفا لمخابرات العدو، وثغرة تنفذ منها إلى الصف الداخلي الملتحم.
((فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟)).
(ج) ولكن هل تمر هذه الوقاحة والفتنة دون عقوبة؟ لا. وإذا كان رسول الله (ص) قد اختار الرفق. فقد يتمادى الحاقدون والموتورون. وتأتي هنا عظمة المعالجة النبوية التى جعلت من حمل راية العقوبة لهذا المجرم ابنه العظيم عبد الله بن عبد الله. فلقد أشعره بالذل والصغار. وأبقاه رهينة حتى أذن رسول الله (ص) له بالدخول، ومن يجرؤ أن يثور لابن أبي من أحبابه وأصاره وحزبه إذا كان ابنه هو الذي ينفذ هذه العقوبة؟ وهو الذي يعلن على ملأ الدنيا كلها، وخاصة حزب أبيه أنه ينتظر إشارة رسول الله (ص) للإتيان برأس أبيه. لقد خنقت الفتنة في المهد.
(د) وبدل أن يحول عبد الله بن أبي إلى بطل شهيد. وترعد أنوف لقتله. تحول إلى تجمع للسخرية والمهانة والمذلة.
(وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه فقال رسول الله (ص) لعمر بن الخطاب: ((كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))) فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري) (1).
(1) السيرة النبوية 293/ 2.