الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشاهدنا هذا النموذج من فرعون هذه الأمة أبي جهل يوم يقول للشريف: (لنسفهن حلمك، ولنقيلن رأيك، ولنضعن شرفك) ويقول للتاجر: (لنكدسن تجاربك، ولنهلكن مالك).
ومن أهم أنواع التهديد كذلك: التهديد بقطع الأعناق بعد الأرزاق، والترويع بالقتل لو استمر المسلم على دينه ودعوته.
ولن تنال هذه التهديدات من عزيمة المسلم الذي يعرف من أولويات دينه أن الذي يحيي ويميت هو الله رب العالمين. وأن الأجل لا يتقدم لحظة أو يتأخر {.. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (1) وهذا كله بيد الله سبحانه.
ثالثا: التعذيب:
1 -
عن ابن مسعود قال: (بينما رسول الله (ص) يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور (3) بالأمس، فقال أبو
(1) الأعراف: 34.
(2)
الأنعام: 60، 61.
(3)
جزور: ناقة.
جهل: أيكم يقوم إلى سلا (1) جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي (ص) وضعه بين كتفيه. قال: فاستضحكوا (2) وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كان لي منعة (3) طرحته عن ظهر رسول الله (ص)، والنبي (ص) ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويربة فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي (ص) صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا. ثم قال:((اللهم عليك بقريش)) - ثلاث مرات - فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته ثم قال:((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والويد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط ..)) وذكر السابع فلم أحفظه، فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب (4) قليب بدر) (5).
2 -
(وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله (ص)، قال: بينا رسول الله
(1) سلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة.
(2)
استضحكوا: حملوا أنفسهم على الضحك والسخرية.
(3)
منعة: أي لو كان لي قوة تمنع أذاهم.
(4)
القليب: هي البئر التي لم تطو.
(5)
مسلم كتاب الجهاد والسير 38 ب. 39 ح. 107.
(ص) يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله (ص) ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا. فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، ودفع عن رسول الله وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (1).
3 -
وعن ابن مسعود قال: (كان أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله (ص)، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله (ص) فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم دروع الحديد، وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادو، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد، أحد) (2).
4 -
(وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ألا أحدثكما عنه - يعني عمار - أقبلت مع رسول الله (ص) آخذا بيدي نتمشى بالبطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وعليه يعذبوه فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا فقال له النبي (ص): ((اصبر)) ثم قال: ((اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت)) (3).
(1) البخاري كتاب التفسير، سورة غافر ج. 6/ 659.
(2)
رواه ابن ماجه وقال: في الزوائد إسناده ثقات، رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك.
(3)
مجمع الزوائد 9/ 293، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
5 -
وقال الإمام أحمد عن مجاهد: (أول شهيد كان في أول الإسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها، وهذا مرسل)(1).
6 -
(قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله (ص) من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة،
حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول:
نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهد) (2). 7 - قال ابن إسحاق:(ثم أعتق معه (أي بلال) قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم عامر بن فهيرة .. وأم عبيس، وزنيرة، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى؛ فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان فرد الله بصرها، وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: حل (3) يا أم فلان؟ فقالت:
(1) البداية والنهاية لابن كثير.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 1/ 320.
(3)
حل: أي تحللي من يمينك واستثني فيها.
حل. أنت أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان. أرجعا إليها طحينها، قالتا:
أونفرغ يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما.
ومر بجارية بني مؤمل حي من بن عدي بن كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا عن ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر، فأعتقها) (1).
8 -
(قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة، قالت: لما اجتمع أصحاب النبي (ص) - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا - ألح أبو بكر على رسول الله (ص) في الظهور.
فقال: ((يا أبا بكر إنا قليل)) فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله (ص)، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته.
وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله (ص) جالس. فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله (ص)، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فصربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطىء أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه في نعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 318، 319.
بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله (ص)؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه: أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله (ص)؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد ابن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله (ص)؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن لك علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شربا أو آتي رسول الله (ص). فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله (ص)، قال: فأكب عليه رسول الله (ص) فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله (ص) رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال هذا الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله
لها عسى أن يستنقذها بك من النار. فدعا لها رسول الله (ص)، ودعاها إلى الله فأسلمت. وأقاموا مع رسول الله (ص) في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا) (1).
9 -
وعن خباب رضي الله عنه قال: (لقد رأيتني يوما وقد أوقدو لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك (2) ظهري) (3). وخباب رضي الله عنه هو الذي يحدثنا عن رسول الله (ص) فيقول: (أتيت النبي (ص) وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة فقلت: ألا تدعو لنا فقعد وهو محمر وجهه، فقال:((لقد كان من قلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله - زاد بيان - والذئب على غنمه))) (4).
…
1 -
إذا كان التعذيب ولاعتداء الآثم، قد نال شخص رسول الله (ص)، فلم يعد هناك أحد لكرامته هو أكبر من الابتلاء والمحنة، وليست الأسوة
(1) البداية والنهاية لابن كثير 24،23/ 3.
(2)
الودك: الدهن.
(3)
السيرة الحلبية 483/ 1.
(4)
البخاري ك. مناقب الأنصار، باب ما لقي رسول الله وأصحابه من المشركين ج. 5 ص. 56.
الحسنة للدعاة برسول الله (ص) في جانب واحد دون جانب. ليست في إقبال الناس وتكريمهم لهم فقط. أما عند المحنة فيبحثون عن مبرر شرعي للهروب منها.
إن الأسوة الحسنة في الصبر على الضراء وفي البأساء، وحين البأس، كما هي في الشكر على السراء كذلك، ومن حكمة الله تعالى أن جاء الحديث في القرآن عن الصبر على الحق والاستشهاد في سبيل الله بعد ذكر جانب الأسوة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} (1).
وتلك سنة الله تعالى في الدعوات؛ (فعن مسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:
(الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في ديه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) (2).
2 -
وأن يتمكن السفهاء من سيد الخلق، وتضاحكو، ويلقو سلا البعير عليه، أو يحاولوا خنقه عليه الصلاة والسلام هو في حس المؤمن
(1) الأحزاب: 21 - 23.
(2)
ابن ماجه ب. الصبر على البلاء 2/ ص. 1334 ح. 4023 وفي الصحيحين بعضه.
أعظم من كل بلاء في الدنيا، وهو أكرم مخلوق على الله تعالى وهذا يهون على المؤمن كل ما يمكن أن يصيبه من محاولات الانقاص من قيمته.
وهو المحترم في قومه، والمفدى في أهله. إن الجاب المعنوي في هذا الموضوع أكبر من الجانب المادي، ولابد أن يوطن الداعية نفسه للجانبين معا. وتروي بعض كتب السيرة (أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة، وهو ساجد حتى كادت عيناه يتبرزان)(1)، والله تعالى قادر على حماية نبيه، وعلى إهلاك عدوه، ولكنها الأسوة المستمرة إلى قيام الساعة بحيث لا يهن المؤمن ولا يحزن مهما نزل به من ضر أو هون وقد أصاب نبيه ذلك.
3 -
والعاقبة للمتقين، فهؤلاء الذين حاربوا الدعوة والدعاة في مكة، وأنزلوا بالمؤمنين صنوف العذاب، قد تحطموا أمام صبر المؤمنين وثباتهم، وسقطوا صرعى جميعا في بدر، وأشدهم أذية لرسول الله (ص) عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، شاءت إرادة الله تعالى أن يكونا أسيرين في بدر، ويقتلا من دون الأسرى جميعا. وشفى الله تعالى صدر نبيه والمؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم بقتلهما بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام.
4 -
والعذاب الجسدي من الجر في الهاجرة على بطحاء مكة، ووضع
(1) السيرة الحلبية 1/ 472.
الصخرة العظيمة، والتعذيب بالنار لخباب وعمار، والسجن لأبي بكر وطلحة حيث سميا بالقرينين .. كل هذه الأمور نماذج مما يمكن أن يلقاه المسلم من التعذيب في سبيل دينه.
ولا شك أن تطور وسائل التعذيب لدى أعداء الإسلام أصبح حافلا بما تذهل العقول من شدته، من الصعق بالكهرباء، وإقلاع الأظافر، والحيلولة دون النوم أياما متتاليات، وتسليط الكلاب المسعورة على الأجساد الطاهرة، وثلم العرض للعفيفات الحرائر .. كل هذه الأمور، التي استحدثها الأعداء في الأرض هدفها أن تئد هذه الدعوة وهذا الدين .. ولكن الله غالب على أمره، ولكن أكبر الناس لا يعلمون .. فقد انهار الطغاة أمام صبر الدعاة، ولقي أعداء الإسلام وزبانيتهم من الجلادين والأقزام أسوأ المصير، وما أعطى المسلم عطاء أعظم من الصبر.
5 -
ولا يغيب عن الذهن عظمة الوزير الأول أبي بكر رضي الله عنه، يوم وقف أول خطيب لله ورسوله في الأرض، وكاد أن يقدم روحه ثمنا لهذه الخطبة .. ووضع جاهه وماله ونفسه فداء رسول الله (ص)، كما فعل يوم رأى المشركين وقد أقبلوا على رسول الله (ص)، يريدون قتله، فراح يضاربهم حتى تحول التعذبب والأذى له، لا يغيب عن الذهن كيف يفدي الدعاة قياداتهم الرائدة المجاهدة في سبيل الله بأرواحهم وأنفسهم وحياتهم.
6 -
كما لا يغيب عن الذهن كذلك ذلك الوعي العظيم من أم جميل بنت