المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الحادي عشرالوحي - فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي البحث

- ‌أولامباحث تمهيدية

- ‌الفصل الأولمعنى السيرة النبوية وأهميتها

- ‌تعريف بالسيرة النبوية:

- ‌أهمية السيرة النبوية:

- ‌دراسة السيرة عبادة:

- ‌مصادر السيرة:

- ‌أولا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيا كتب السنة:

- ‌ثالثا: كتب السير والتراجم:

- ‌رابعا: كتب الدلائل والشمائل والمعجزات والخصائص:

- ‌خامسا: كتب التاريخ والأدب:

- ‌مدى عناية المسلمين بها:

- ‌وكلمة عن ابن هشام وعمله في سيرة ابن إسحاق:

- ‌السيرة النبوية خلال القرون:

- ‌الفصل الثانيالنبوة

- ‌حاجة البشر إلى الأنبياء:

- ‌حاجتهم إلى خاتم الأنبياء:

- ‌الإيمان هو الأصل والشرك طارئ:

- ‌النبوة اجتباء من الله تعالى واصطفاء:

- ‌الفصل الثالثلمحة عن‌‌ أصل العرب وعقيدتهم

- ‌ أصل العرب وعقيدتهم

- ‌طروء الشرك عليهم:

- ‌عناية الإسلام بسد ذرائع الشرك:

- ‌الفصل الرابعنبذة عن حياة العرب

- ‌أصول العرب:

- ‌ العرب البائدة:

- ‌ العرب العاربة:

- ‌ العرب العدنانية:

- ‌الحالة الدينية:

- ‌الطواغيت:

- ‌الحالة السياسية:

- ‌ الملك باليمن:

- ‌الملك بالحيرة

- ‌الملك بالشام:

- ‌الإمارة بالحجاز:

- ‌الحياة الاجتماعية والخلقية:

- ‌الحالة الاقتصادية:

- ‌الحالة الخلقية:

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

- ‌الفصل الخامساختياره من بيت شرف ونسب

- ‌الفصل السادسيتم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رضاعه صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل السابععمله ب‌‌الرعيوالتجارة

- ‌الرعي

- ‌التجارة:

- ‌الفصل الثامنحفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة

- ‌لقاؤه مع بحيرا الراهب:

- ‌أمره بستر عورته:

- ‌أمر الجاهلية:

- ‌وقوفه بعرفات:

- ‌الفصل التاسعمشاركته في أحداث قومه

- ‌حضوره حرب الفجار

- ‌شهوده حلف الفضول:

- ‌بناء الكعبة والتحكيم:

- ‌الفصل العاشرزواجه من خديجة

- ‌العهد المكي للدعوة

- ‌الفصل الحادي عشرالوحي

- ‌الفصل الثاني عشرمراحل الدعوة

- ‌الفصل الثالث عشرمن أسلوب المخالفين في مواجهة الدعوة

- ‌أولا: التشويه:

- ‌ثانيا: التهديد:

- ‌ثالثا: التعذيب:

- ‌رابعا: الترغيب:

- ‌ المال:

- ‌ الجاه:

- ‌ النساء:

- ‌خامسا: التعجيز:

- ‌سادسا: الاغتيال:

- ‌سابعا: المقاطعة:

- ‌الفصل الرابع عشرسنة الله تعالى في الابتلاء

- ‌ تزكية الفرد:

- ‌ نفي الخبث عن الدعوة:

- ‌ الدعاية لها:

- ‌ جذب بعض العناصر القوية إليها:

- ‌وجوب الصبر على الابتلاء

- ‌الفصل الخامس عشرالاستفادة من قيم الجاهلية

- ‌الفصل السادس عشروطن الداعية حيث مصلحة الدعوة

- ‌الهجرة إلى الحبشة:

- ‌قريش تحاول إعادة المهاجرين إليها:

- ‌تخطيط ذكي جديد:

- ‌مؤامرة جديدة تتحطم:

- ‌ثانيا: عرض رسول الله (ص) نفسه على ثقيف

- ‌ثالثا: عرض نفسه على القبائل

- ‌بنو شيبان:

- ‌الفصل السابع عشرالإسراء والمعراج ودلالتهما

- ‌حديث الإسراء

- ‌حديث المعراج

- ‌الفصل الثامن عشرالهجرة إلى المدينة

- ‌أولا: أسبابها:

- ‌ثانيا: التخطيط لها وأهميتها في تاريخ الدعوة:

- ‌ تهيئة الركب:

- ‌ شراء البعيرين وعلفهما:

- ‌ جاء في نحر الظهيرة:

- ‌ مجيئه مقنعا:

- ‌ الأمر بإخراج الناس من البيت:

- ‌ تهيئة الزاد:

- ‌ الخروج من خوخة أبي بكر:

- ‌ كتمان الأمر:

- ‌ الخروج إلى الغار:

- ‌ عبد الله يتلقط الأخبار:

- ‌ عامر بن فهيرة يعفو على الأثر:

- ‌ ابن فهيرة وغنمه للزاد كذ

- ‌ رسول الله (ص) لا يبيت على فراشه:

- ‌ مبيت علي رضي الله عنه في الفراش:

- ‌ اختيار الدليل المناسب:

- ‌ اختيار طريق الساحل:

- ‌ الهادي على الطريق:

- ‌ حيلة أسماء في المال:

- ‌أهمية الهجرة في تاريخ الدعوة:

- ‌ثالثا: دور الشباب والمرأة في الهجرة:

- ‌العهد المدني للدعوة

- ‌الفصل التاسع عشرتنظيم المجتمع النبوي

- ‌أولا: بناء المسجد:

- ‌ثانيا: المؤاخاة:

- ‌ثالثا: وثيقة المدينة (الدستور الإسلامي):

- ‌الباب الأول

- ‌الباب الثاني

- ‌الباب الثالث

- ‌ دستور الدولة الإسلامية الجديدة

- ‌ الباب الأول: حقوق وواجبات المسلمين في الدولة المسلمة:

- ‌ الباب الثاني: حقوق وواجبات غير المسلمين في الدولة المسلمة

- ‌ الباب الثالث: أحكام عامة للمواطنين عامة:

- ‌الفصل العشرونالإذن في الجهاد

- ‌أولا: مرحلة كف اليد:

- ‌ثانيا: الإذن في الجهاد:

- ‌ثالثا: أهمية الجهاد في الإسلام:

- ‌الفصل الحادي والعشرونأهم السرايا والغزوات

- ‌أولا: الإحصاء الإجمالي:

- ‌ثانيا: سرية عبد الله بن جحش:

- ‌الفصل الثاني والعشرونغزوة بدر

- ‌أولا: أسباب الغزوة وأهدافها:

- ‌ثانيا: الاستشارة التي غيرت وجه المعركة:

- ‌ثالثا: استقصاء المعلومات عن العدو:

- ‌رابعا: من أحداث الغزوة:

- ‌خامسا: أهمية الغزوة:

- ‌سادسا: آثارها:

- ‌الفصل الثالث والعشرونغزوة أحد

- ‌أسباب الغزوة:

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌قوانين النصر والهزيمة:

- ‌التمحيص في أحد:

- ‌النماذج الإيمانية الرائعة:

- ‌القيادة النبوية العظيمة:

- ‌آثار المعركة:

- ‌ من حيث موقف المسلمين في المدينة:

- ‌ من حيث جرأة العرب على المؤمنين:

- ‌ من حيث الموقف مع قريش:

- ‌كيف عالج القرآن أثر المحنة

- ‌الفصل الرابع والعشرونغزوة الخندق

- ‌أسباب الغزوة:

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌الفصل الخامس والعشرونغزوة الحديبية

- ‌أحداث الحديبية:

- ‌الفصل السادس والعشرونغزوة خيبر

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل السابع والعشرونغزوة مؤتة

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الثامن والعشرونفتح مكة

- ‌ أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل التاسع والعشرونغزوة حنين

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الثلاثونغزوة تبوك

- ‌أحداث الغزوة:

- ‌من فقه الغزوة:

- ‌الفصل الحادي والثلاثونمواقف المنافقين من الدعوة

- ‌ النفاق في مكة:

- ‌ بداية التجمع:

- ‌ دورهم في غزوة بني قينقاع:

- ‌ دورهم في غزوة أحد

- ‌ تآمرهم مع بني النضير

- ‌ المنافقون يوم الأحزاب

- ‌ الفريق الأول:

- ‌ الفريق الثاني:

- ‌ الفريق الثالث:

- ‌ المنافقون يوم بني المصطلق

- ‌ بعد الحديبية وفتح مكة

- ‌الفصل الثاني والثلاثونمواقف اليهود من الدعاة

- ‌ الموقف الديني:

- ‌ المواقف السياسية

- ‌المواقف العسكرية

- ‌الفصل الثالث والثلاثونأزواج النبي (ص)

- ‌المرحلة الأولى: حتى الخامسة والعشرين:

- ‌ عنف صبوة الشباب وتأجج العاطفة

- ‌المرحلة الثانية: حتى الخمسين من عمره

- ‌ زواجه من خديجة رضي الله عنها

- ‌المرحلة الثالثة: حتى الخامسة والخمسون من العمر

- ‌ الزواج بعائشة وسودة

- ‌المرحلة الرابعة: من الخامسة والخمسين حتى الستين

- ‌بقية نسائه

- ‌(أ) حفصة بنت عمر رضي الله عنها:

- ‌(ب) زينب بنت خزيمة

- ‌(ج) أم سلمة:

- ‌(د) زينب بنت جحش:

- ‌(هـ) أم حبيبة بنت أبي سفيان

- ‌(و) جويرية بنت الحارث:

- ‌(ز) ريحانة بنت زيد:

- ‌(ح) صفية بنت حيي:

- ‌(ط) مارية القبطية:

- ‌(ي) ميمونة بنت الحارث:

- ‌المرحلة الخامسة: من الستين إلى الثالثة والستين

- ‌لم يتزوج فيها رسول الله

- ‌خاتمة

- ‌الفصل الرابع والثلاثونعالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها من السيرة

- ‌ كتب رسول الله (ص) إلى كل ملوك الأرض

- ‌ كتاب هرقل عظيم الروم:

- ‌ كتاب كسرى عظيم الفرس

- ‌ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:

- ‌ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:

- ‌ بقية الكتب:

- ‌الفصل الخامس والثلاثونأخلاقه صلى الله عليه وسلم

- ‌وجوب محبته ومن لوازم محبته اتباعه:

- ‌نماذج من تربيته (ص) لأصحابه:

- ‌الفصل السادس والثلاثونوفاته صلى الله عليه وسلم. وبيعة الصديق

- ‌قبل أربعة أيام: يوم الخميس:

- ‌قبل ثلاثة أيام: يوم الجمعة:

- ‌قبل يوم واحد:

- ‌آخر يوم من الحياة:

- ‌اللحظات الأخيرة:

- ‌جهاز رسول الله (ص) ودفنه

- ‌تكفين رسول الله:

- ‌حفر القبر:

- ‌الصلاة على رسول الله ثم دفنه:

- ‌الفصل السابع والثلاثونبيعة الصديق وحروب الردة

- ‌الانقلاب على العقب:

- ‌إنفاذ جيش أسامة:

- ‌مانعو الزكاة:

- ‌ الكتاب الذي وجهه الصديق إلى هؤلاء المردة المرتدين

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم:

- ‌ثبت المراجع والمصادر

- ‌المحتوى

الفصل: ‌الفصل الحادي عشرالوحي

‌الفصل الحادي عشر

الوحي

(عن عائشة رضي الله عنها قالت:

أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث به وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ((ما أنا بقارئ)). قال ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ: قلت: ما أنا بقارئ)) قال: ((فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني)) فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم} .

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال:((زملوني، زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها بالخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

ص: 125

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا (1)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله:((أومخرجي هم؟)) قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي) (2).

وقال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان (3) مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير (4) وهو يقول لعبيد بن عمير (5) بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال: فقال عبيد وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير، ومن عنده من الناس:

كان رسول الله يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية (والتحنث: التبرر) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك

(1) جذعا: شابا قويا.

(2)

صحيح البخاري ك. 1 ب. 1.

(3)

وهب بن كيسان: ثقة من كبار الرابعة.

(4)

عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الاسلام من المهاجرين.

(5)

عبيد بن عمير بن قتادة، مجمع على ثقته.

ص: 126

الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره، من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به- إذا انصرف من جواره- الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته.

حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى ما أراده من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر: شهر رمضان. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كانت يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فجاءني جريل وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟)) قال: ((فغتني به، حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ)) قال: ((قلت ما أقرأ؟)) قال: ((فغتني به حتى طنت أنه الموت، ثم أرسلني. فقال: اقرأ)) قال: ((قلت: ماذا اقرأ؟)) قال: ((ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} قال: ((فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا)) قال: ((فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل)) قال: ((فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل)) قال: ((فوقفت أنظر إليه ما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء)) قال: ((فلا أنظر في ناحية منها

ص: 127

إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة))، تم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر، وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، وأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل:

قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتينني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.

فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال يابن أخى أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة:

والذي نفسى بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا بعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، ثم

ص: 128

انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله) (1).

1 -

المجتمع المكي يعج بالوثية، وبالطقوس الدينية التي لا تنتهي من النذور والقرابين لغير الله، ومن التمسح بالأحجار والأوثان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبغض شيئا كما يبغض هذه الأمور، وقد رأينا كيف أحرج مرة في حضور عيد لقومه عند صنم بوانة، ثم رفض وابتعد، فما حضر لهم عيدا قط، كيف قال لبحيرى الراهب عندما سأله:

- يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟

- ((لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما)).

إنه يحس عليه الصلاة والسلام بالنفور التام من هذا المجتمع الوثني، ولم ير بدا من الخلوة بعيدا بعيدا عن هذه الأجواء الملوثة يتفكر

(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 235 - 239، ويقول السهيلي في تعليقه بعض نقاط الاختلاف بين الروايتن:(وذكر نزول جبريل على رسول صلى الله عليه وسلم. قال في الحديث، فأتاني وأنا نائم)) وقال في آخره: ((فهببت في نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا)). وليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل حين نزل بسورة اقرأ كان في اليقظة لأنها قالت في أول الحديث:(أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ..) وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة، توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به، لأن أمر النبؤه عظيم، وعبؤها ثقيل، والبشر ضعيف، وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا ويصححه). انظر الروض الأنف للسهيلي 1/ 268، 269.

ص: 129

في خلق السموات والأرض. ووجد بغيته في غار حراء، ولم يحافظ على شيء من تلك الطقوس إلا على حبه للكعبة وطوافه بها كلما أمضى ليالي وعاد إليها يدفعه الحنين، ويحدوه التقديس العظيم لها حتى قبل أن يلقى أهله، ويدخل بيته.

وكانت هذه المقدمات تهيئة له عليه الصلاة والسلام ليتلقى الوحي، بحيث يتجه بكل كيانه ووجدانه إلى ربه عز وجل، بعيدا عن مشاغل الدنيا، وفتن العصر، موصول القلب بالله فاطر السموات والأرض محررا من كل قيود الدنيا وأوهاقها وتبعياتها، صافي الذهن والسريرة لتلقي الوحي الرباني من العلي الأعلى، وكانت زوجه رضي الله عنها تهيىء له هذا الجو المتفرد، وتكفيه زاده وطعامه، وتحثه على التحنث بالغار.

وفي شهر رمضان الذي اختاره عليه الصلاة والسلام ليكون موعد تعبده، وفي حراء، حيث تبدو مكة والكعبة للناظر إليها دون عائق.

نحن بحاجة لتصحيح كثير من مفاهيمنا، ولإعادة النظر فيها في جو شبيه بجو حراء، فيما شرعه الله لنا من اعتكاف، نراجع القناعات، ما كان به لوثة من زحام الأرض، وفلسفات أهلها، فنطرحه بعيدا عنا، وننقي الشوائب التي علقت بالقلوب والوجدان، فكرية أو عاطفية، ونصحح واقعنا كله على ضوء الكتاب والسنة .. إنها وقفات على الطريق، ولفتات إلى الوراء، نراجع الرصيد، ونفتش السلوك، ونمحص الرأي، ونهذب القلب، وننفي الضمير، لنتابع المسير بعد

ذلك على الطريق، على بينة وهدى.

2 -

وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمح إلى الوحي، ولا يعرف شيئا عنه، ولم يكن

ص: 130

بذهنه انتظار جبريل. لقد كان الأمر جديدا كل الجدة عليه حتى ليمضي فزعا إلى خديجة رضي الله عنها، يخاف أن يصيبه مس من الشيطان، ويخشى على عقله مما رأى وسمع. ولعل أمر النبوة في حس خديجة رضي الله عنها أكبر منه في حس النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تأمل وتنتظر، وورقة من طرف آخر، يأمل ويتوق وينتظر:

أتبكر أم أنت العشية رائح

وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح

لفرقة قوم لا أحب فراقهم

كأنك عنهم بعد يومين نازح

وأخبار صدق خبرت عن محمد

يخبرها عنه إذا غاب ناصح

وظني به أن سوف يبعث صادقا

كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له

بهاء ومنشور من الذكر واضح (1)

لقد كان الوحي مفاجأة كاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بينما كان عند أم المؤمنين خديجة تحقيقا لانتظار طال .. فخديجة وابن عمها ورقة كأنهم يرونه وأي العين أهلا لهذه النبوة. أما هو صلى الله عليه وسلم فما كان يخطر له على بال أن يكون النبي المبعوث رحمة للعالمين. لقد سمع ورأى، وكان الحجر والشجر يسلم عليه كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. لكنه لم يكن يدري كيف تكون الرسالة، كيف يكون الوحي، فلم يقرأ في كتاب، ولم يجلس إلى راهب يحدثه عن هذا الأمر، ولم يسمع بشيء عن مفهوم الوحي والرسالة.

يؤكد هذا المعنى كتاب الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك

(1) رواه ابن إسحاق عن يونس بن بكر، الاكتفاء للكلاعي 1/ 203، 204.

ص: 131

روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (1).

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} (2).

{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (3).

{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} (4) وحتى عندما جاءه الوحي مرة ثانية.

قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:

(1) الشورى: 52، 53.

(2)

يونس: 15، 16.

(3)

يوسف: 3.

(4)

هود: 49.

ص: 132

(بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر * قم فأنذر} إلى قوله {والرجز فاهجر} فحمي الوحي وتتابع)) (1).

وحكمة الله تعالى في ذلك أن لا يكون متطلعا لمثل هذا الأمر، فتسول له نفسه مثل هذه الأمور، فلم يكن يقرأ كتبا، ولا يجالس كهنة، ولا يختلف إلى راهب، ليكون جاهزا للتلقي من الله تعالى دون وساطة، ودون تدخل بشري مطلق، ويكون قلبه الشريف وعاء لوحي الله تعالى وحده، فلا تتدخل التصورات البشرية فيه، والتفسيرات الوضعية، ولا القصور الإنساني في ماهيته.

{الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} (2){وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} (3).

3 -

وهذه الآيات الكريمة التي أنزلها الله تعالى على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} (4) لتكون أول ما

(1) صحيح البخاري ك. 1 ب. 1.

(2)

إبراهيم: 1.

(3)

الشعراء: 192 - 196.

(4)

العلق: 1 - 5.

ص: 133

ينطبع في قلبه من وحي الله تعالى، ((فهببت من نومي كأنما كتبت في قلبي كتابا))، لتدل دلالة واضحة على عظمة ودور العلم في حياة البشرية، العلم من لدن الحكيم الخبير، والذي يعتمد على القراءة والكتابة بالقلم أسلوبا رئيسيا له.

وهذا العلم كثيرا ما يدخل في متاهات التفسير البشيري القاصر، وإن المسلم ليعجب من هذه التفسيرات القاصرة، والقرآن الكريم ما ترك مجالا لها، وقد أوضح المقصود الأساسي منها، حتى لنجد كثرة التأثر بالعلم الغربي البشري في أيامنا المعاصرة، والانبهار الكبير بآثاره ونتائجه يدفع الكثيرين من الكتاب- عن حسن نية- إلى حصر العلم بهذا العلم البشري القاصر- على اتساع آفاقه وكبير آثاره- ويحرفون كل الأحاديث والآيات الواردة في العلم. لتكون نصا على هذا العلم البشري.

نحن بحاجة إلى تصحيح هذه النظرة، وإلى العودة إلى القواعد الأولى في هذا الدين. فالعلم كما ورد في القرآن الكريم لا يعني وبهذا التعريف- العلم- إلا الوحي {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ..} (1)، {(.. ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} (2)، {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما

(1) آل عمران: 61.

(2)

البقرة: 120.

ص: 134

جاءهم العلم بغيا بينهم

} (1)، {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ..} (2).

لكن عندما يذكر غير الوحي تأتي كلمة العلم نكرة- علم- لأنها تمثل جانبا من الحقيقة، أما الحق الثابت في هذا الوجود هو الوحي فقط. {قال إنما أوتيته على علم عندي

} (3){قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (4)، {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (5).

ويبقى العلم البشري الذي يصل إليه الإنسان بجهده وفكره وذكائه، وحتى ما يجتهد فيه مما يتلقاه من الشرع ويجتهد في فهمه - علم- قابل للصواب والخطأ. أما العلم الثابت اليقيني الحق في هذا الوجود هو كتاب الله تعالى، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .. وكل علم دونه يعتبر حقا بمقدار ما يتوافق مع هذا العلم المطلق، مع وحي الله تعالى في كتابه ووحيه لرسوله الذي قال الله تعالى عنه {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} (6).

يقول السهيلي: (وقوله: ((ما أنا بقارئ))؛ أي إني أمي، فلا

(1) الجاثية: 17.

(2)

القصص: 80.

(3)

القصص: 78.

(4)

النمل: 40.

(5)

الحج: 8.

(6)

النجم: 3، 4.

ص: 135

أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له:{اقرأ باسم ربك} ، أي: إنك لا تقرؤه بحولك ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم ربك مستعينا، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعد ما خلقها فيك، كما خلقه في كل إنسان، والآيتان المتقدمتان لمحمد، والآخرتان لأمته، وهما قوله تعالى:{الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} ، لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب، وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم، وتعلمه نبيهم تلقينا من جبريل نزله على قلبه بإذن الله ليكون من المرسلين) (1).

4 -

(ولا شك أن موقف خديجة رضي الله عنها هو من أعظم المواقف التي شهدها تاريخ الأمة المسلمة، فكانت كما قال ابن هشام: (وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى)(2).

واستحقت على هذه المواقف العظيمة أن يقرئها ربها السلام، ويقرئها جبريل السلام، تحية من عند الله مباركة طيبة.

(1) الروض الأنف للسهيلي 1/ 270، 271.

(2)

السيرة النبوية لابن هشام 1/ 240.

ص: 136

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (1) لا صخب (2) فيه ولا نصب (3)) (4).

وقال ابن هشام: (حدثني من أثق به أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرىء خديجة السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام من ربك) فقالت خديجة: الله السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام) (5).

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خاف على نفسه عندما جاءه جبريل، لكن خديجة التي خبرت سيد ولد آدم، ما تطرق لها الشك، وقد عرفته خلقا ودينا وسموا. فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا وتحدثت عن فضائله العظمى التي لا تتناسب مع خذلان الله له (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضعيف، وتعين على نوائب الحق) .. وعاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنوات المحنة العجاف، وكانت سلوانه وعونه، ومن أجل هذا مضى في التاريخ

(1) القصب: لؤلؤ مجوف واسع.

(2)

الصخب: اختلاط الأصوات.

(3)

النصب: التعب.

(4)

أخرجه مسلم وقال فيه البغوي: هذا حديث متفق على صحته، شرح السنة 14/ 156/ 3953. ورواه البخاري في فضائل الصحابة 7/ 105.

(5)

السيرة النبوية لابن هشام 1/ 240.

ص: 137

الإسلامى عام وفاتها باسم عام الحزن، حين فقدها، وفقد عمه أبا طالب في العام نفسه.

وبقيت حية في ذاكرته، لا ينساها أبدا، حتى لا ينسى كل ما يمت إليها بصلة، رغم أنه تزوج بعد وفاتها رضي الله عنها بالكثير من نسائه، وتلك عائشة رضي الله عنها تقول:(ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وربما قلت يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاه، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأه إلا خديجة، فيقول: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد))) (1).

وتحدثنا عائشة رضي الله عنها كذلك قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: ((اللهم هالة بنت خويلد)) فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيرا منها) (2).

وزاد أحمد في رواية قالت: (فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي ..). وإسناده على شرط مسلم، وفي أخرى له: (قال: ((ما أبدلني الله خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس،

(1) رواه البخاري في فضائل الصحابة 7/ 102، ومسلم في فضائل خديجة 4/ 75/ 2435.

(2)

رواه مسلم 4/ 78/ 2437.

ص: 138

وصدقت إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)) (1).

إنه درس للمرأة المسلمة الداعية، أن تكون دعوة الله ورسوله هي التي تملأ عليها كيانها، وحياتها، ووجودها، أمام أسوتها خديجة، وأن تجعل حياتها ومالها وجاهها في سبيل الله تحمل الراية بجوار زوجها الداعية، وتكون عونا له لا عبئا عليه، تخفف عنه آلامه وهمومه، لا تثبطه وتوهنه وتجره أن يثاقل إلى الأرض.

ودرس للرجل المسلم الداعية، أن يعرف لزوجه فضلها ومحنتها في جواره، وصبرها على متاعبه، إن يتمثل عظمة الوفاء النبوي في وصل صديقات خديجة بعد وفاتها، وفي هشه وبشه لاستئذان هالة أخت خديجة.

5 -

ونقف أخيرا عند الجواب العظيم لورقة بن نوفل وهو يحدد خط سير الدعوة.

(ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتقاتلنه. قال ((أومخرجي هم)) قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك، لأنصرنك نصرا مؤزرا).

فبمقدار عظمة التكريم، والبشارة بأنه نبي هذه الأمة، بمقدار الثمن الباهظ الذي يدفعه ثمنا لذلك، فلن يقبل الناس أفواجا على هذا الدين منذ أول الطريق.

(1) تعليق الألباني على مختصر صحيح مسلم 845/ 1674.

ص: 139

إن الأمين سيكذب، ولا يكتفى بتكذيبه، بل سيؤذى فوق ذلك، وهدأت نفس النبي (ص) للأذى لكنه فوجيء أن سيكون الإخراج له من أحب أرض الله إليه .. من مكة المكرمة .. وأكد له ورقة أنه خط ثابت لأصحاب الدعوات لا مناص منه .. فما جاء أحد بما جئت به إلا عودي .. {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} (1).

فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على الصبر على مشاق الطريق، وتحمل تبعاته، وأن يعلم أن هذا الدين، وإن كان يمثل الفطرة السوية للبشر، لكنه يتعارض مع أهوائهم ومصالحهم وطغيانهم، ولن يدع الطغاة للدعاة الطريق مفروشا بالرياحين، بل بملؤونه بالدماء والأشلاء والآلام، ومهمة الداعية أن يقتلع هذه الأشواك، ويواجه المحن مهما اكتظت والخطوب مهما ادلهمت، لأنه وضع نفسه على خطا النبيين، ولا بد أن يكوين على مستوى المسئولية:

وإذا النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

(1) إبراهيم: 13، 14.

ص: 140