الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع والثلاثون
عالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها من السيرة
1 -
ابتدأت عالمية الدعوة من أول لحظة اتصلت بها السماء بالأرض. ومنذ أن تشرفت الأرض بكلام الله تعالى يفيض على الوجود. ويتلقاه قلب النبي (ص).
{اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (1).
إنها قراءة الوجود كله، والخلق كله. والإنسان كله. إنها تسبيحة في هذا الوجود الفسيح بعد أن كان الجاهليون مخنوقين في نتن اللات والعزى وهبل يستمطرونها النفع والرحمة. ويعوذون بها من اللأواء والضر.
2 -
واستمرت المعركة سنين طوالا - يحاول المشركون فيها أن يصوروا محمدا ساحرا وشاعرا أو طالب ملك في رقعتهم الضيقة المخنوقة المحبوسة بجبال مكة. ورسول الله (ص) يخرجهم إلى عوالم الوجود كافة. ((الحمد لله رب العالمين.))
((ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم ولا الملك
(1) العلق 1 - 5.
عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم))) (1).
3 -
والآيات القرآنية التي نزلت في مكة. ومنذ الفجر تذكر أن هذا القرآن وهذا الرسول هو للناس جميعا للعالمين.
(أ) {
…
قل لا أسألكم عيه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} الأنعام / 90 مكية.
(ب){وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء / 107 مكية.
(ج){تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} الفرقان /1 مكية.
(د) {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل
…
} الروم / 58 مكية.
(هـ) {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق
…
} الزمر / 41 مكية.
(و){هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} الجاثية / 20 مكية.
(ز){وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} سبأ / 28 مكية.
(ح){قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} الأعراف / 158 مكية.
4 -
وشهد العهد المكي إسلام صهيب الرومي، وبلال الحبشي. كما شهد إسلام وفد نصارى الحبشة:
(1) السيرة لابن هشام 296/ 1.
قال سعيد بن جبير: نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي (ص) قرأ عليهم {يس والقرآن الحكيم} حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى {الذين آتيناهم الكتاب من قبله ..} (2).
(قال محمد بن اسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله (ص) وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وساءلوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله (ص) عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى. وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقموه فيما
(1) القصص/ 52 - 55.
(2)
تفسير ابن كثيرا 288 - (29. وقد وردت في السيرة لابن هشام /1/ 391 - 392.
قال: ما نعلم ركبا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه. ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا) (1).
…
5 -
ها هو عليه الصلاة والسلام وهو واثق من نصر ربه. يقول في مكة لوفد بني شيبان ((أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به. فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق ..))) ولم يأل جهدا أن يذكرهم بواقعهم مع الفرس: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم، اتسبحون الله وتقدسونه؟.) فقال النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش. فتلا رسول الله (ص): {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (2)} ) (3).
إنها بشريات لهم بعالمية هذا الدين وانتصاره مثل قوله لوفد قريش عند أبي طالب:
((.. نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم)). فقال أبو جهل. نعم وأبيك وعشر كلمات، قال:((تقولون لا إله إلا الله. وتخلعون ما تعبدون من دونه)) (4).
(1) -تفسير ابن كثير / 288 - (29. وقد وردت في السيرة لابن هشام /1/ 391 - 392.
(2)
الأحزاب: 45 - 46.
(3)
البداية والنهاية لابن كثير /3/ 158 - 159.
(4)
السيرة لابن هشام /1/ 417.
6 -
وتظهر عالمية هذا الدين التي جاوزت عالم الإنس. لتنتقل إلى عالم الجن.
وحتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي. فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى وهم - فيما ذكر لي - سبعة من جن نصيبين. فاستمعوا له. فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه (ص). قال الله عز وجل: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ..} إلى قوله تعالى {.. ويجركم من عذاب أليم} (1) وقال تبارك وتعالى {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ..} (2) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة) (3).
…
7 -
والهجرة نفسها تشهد نماذج من عالمية الرسالة والرسول (ص) فالجن يبتهجون بنجاة رسول الله (ص) من المشركين.
قالت: (أي أسماء): ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليالي وما ندري أين وجه رسول الله (ص) حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه
…
بضيفين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا
…
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد) (4)
(1) الأحقاف: 29 - 30.
(2)
سورة الجن: 1.
(3)
السيرة لابن هشام 1/ 422.
(4)
السيرة النبوية لابن هشام/ 1/ 487.وقد وردت في حديث حسن قوي أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 9، 10 انظر شرح السنة للبغوى 264/ 13.
وهو يبشر سراقة بن مالك رضي الله عنه بقوله:
كيف بك إذا لبست سواري كسرى ومنطقته وتاجه (1).
…
8 -
وتمر الأيام تترى في المدينة، ورسول الله (ص) ماض يؤدي رسالة ربه. وهو يذكر المسلمين دائما بأن الأرض لله يرثها العباد الصالحون. فها هي غزوة الخندق: وبشريات رسول الله (ص) بفتح الأرض له.
(قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي صخرة ورسول الله (ص) قريب مني. فلما رآني أضرب. ورأى شدة المكان علي. نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى قال: ثم ضرب الثالثة فلمعت برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال:((أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟))) قلت: نعم. قال: ((أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق))) (2).
ومع نهاية الخندق حيث رسخت أقدام النبي (ص) في المدينة وقال:
(1) أسد الغابة لابن الأثير 266/ 2 وقد أورده بسنده عن ابن عيينة عن ابن موسى عن الحسن.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير /4/ 112 وقال: قال البيهقي وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في مغازيه.