الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
زواجه من خديجة
(قال ابن إسحاق:
(.. فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب .. وعما كان يرى من إظلال الملكين له، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامته. فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له- فيما يزعمون-: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك (1) في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذالك منها لو يقدر عليه.
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة (2) بن عبد المطلب رضي الله عنه، حتى دخل على خويلد بن أسد،
(1) سطتك في قومك: شرفك وسامي منزلتك.
(2)
ويقال إن الذي نهض معه صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب وهو الذي خطب خطبة النكاح، وكان مما قاله في تلك الخطبة: أما بعد فإن محمدا لا يوازن به فتى من مريش إلا رجح به شرفا ونبلا وعقلا =
فخطبها إليه فتزوجها) (1) ..
(وعن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، كل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل. فأرسلتني دسيسا (2) إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ((ما بيدي ما أتزوج به)) قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب؟ قال: ((فمن؟)) قلت: خديجة. قال: ((وكيف لي بذلك؟)) قلت: بلى وأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت الساعة كذا كذا، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضرت، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فزوجه أحدهم) (3).
وعن ابن عباس فيما يحسب حماد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعاما وشرابا فدعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة: إن محمد بن عبد الله يخطبني
= وفضلا. وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد، ولها فيه مثل ذلك. فقال عمرو (أخوها): هو الفحل الذي لا يقدع أنفه فأنكحها منه. الروض الأنف للسهيلي 1/ 213.
(1)
السيرة النبوية لابن هشام 1/ 188، 189.
(2)
دسيسا: خفية.
(3)
السيرة الحلبية 1/ 223، 224.
فزوجني إياه فزوجها إياه فخلقته (1)، وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء. فلما سري عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة. فقال: ما شأني؟ ما هذا؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله. فقال: أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري. قالت خديجة: ألا تستحي تريد أن تسفه نفسك عند قريش تخبر الناس أنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي) (2).
(وعن عمار بن ياسر أنه كان إذا سمع يتحدث به الناس من تزوج رسول الله خديجة يقول: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. كنت من إخوانه، فكنت له خدنا وإلفا في الجاهلية، وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فمررنا على أخت خديجة، وهي جالسة على أدم لها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما لصاحبك في تزوج خديجة حاجة؟ فأخبرته، فقال: ((بلى لعمري))، فرجعت إليها فأخبرتها بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أغد علينا إذا أصبحت غدا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة، وضربوا عليه قبة، فكلمت أخاها فكلم أباها، وأخبرته برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكانه، وبأنه سأل أن يزوجه خديجة، فزوجه، فصنعوا من البقرة طعاما، فأكلنا منه، ونام أبوها ثم استيقظ، فقال: ما هذه الحلة، وهذه القبة، وهذا الطعام. قالت له ابنته التي كلمت عمارا هذه الحلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وهذه بقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه. وخرج
(1) فخلقته: أي ضمخته بطيب.
(2)
مجمع الزوائد 9/ 220 وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح.
حتى جاء الحجر، وجاءت بنو هاشم حين جاؤوا. فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إليه قال: إن كنت زوجته، وإلا فقد زوجته) (1).
(وعن جابر بن سمرة أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنما، فاستعلى الغنم فكان في الإبل هو وشريك له فأكريا أخت خديجة، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شىء، فجعل شريكه يأتيها فيتقاضاها ويقول لمحمد: انطلق. فيقول: ((اذهب أنت فإني أستحي)). فقالت مرة وأتاهم، فأين محمد؟ قال: قد قلت له فزعم أنه يستحي. فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء ولا أعف ولا ولا ..
فوقع في نفس أختها خديجة، فبعثت إليه فقالت: ائت أبي فاخطبني، قال:((أبوك رجل كثير المال وهو لا يفعل)) قالت: انطلق فالقه فكلمه فأنا أكفيك، وائت عند سكره، ففعل فأتاه فزوجه، فلما أصبح جلس في المجلس فقيل له: أحسنت زوجت محمدا. فقال: أوقد فعلت؟ قالوا: نعم. فقام فدخل عليها فقال: إن الناس يقولون إني قد زوجت محمدا. قالت: بلا، فلا تسفهن رأيك فإن محمدا كذا فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأوقيتين من فضة، أو ذهب وقالت: اشتر حلة واهدها لي، وكبشا وكذا وكذا ففعل) (2).
(1) مجمع الزوائد 9/ 221. وقال الهيثمي رواه الطبراني والبزار وفيه عمر بن أبي بكر المؤملي وهو متروك.
(2)
مجمع الزوائد 9/ 221 وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة، ورجال البزار أيضا إلا أن شيخه أحمد بن يحيى الصوفي ثقة، ولكنه ليس من رجال الصحيح.
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل- وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس- ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه.
فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة. قد عرفت إنه كائن لهذه الأمة نبي هذا زمانه. فجعل ورقة يستبطئ الأمر، ويقول: حتى متى؟! وقال في ذلك:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا
…
لهم طالما بعثالنشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
…
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
…
حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس
…
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود يوما
…
ويخصم من يكون له حجيجا) (1)
1 -
(وكانت خديجة يومئذ أوسط قريش نسبا وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه).
ولا غرو فهي التي كانت تسمى الطاهرة في قومها. وقد أعدها الله تعالى لنبيه. لتكون أكبر سند له في دعوته، ويكون مالها قربى في سبيل الله، ويكفيهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: ((خير نسائها مريم بنت عمران،
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 191، 192.
وخير نسائها خديجة)) (1) وأشار وكيع إلى السماء والأرض وقوله: ((حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون)) (2).
وحاجة الداعية المجاهد في سبيل الله إلى المرأة العاقلة الشريفة التي تستوعبه وتعيش همومه أكثر من حاجته إلى الفتاة الصغيرة التي تحتاج لرعايته وعنايته وتربيته.
2 -
(يابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك
…
) فهي التي اختارت زوجها رضي الله عنها، وهيأت الأسباب والرسل لزواجها، وذللت الصعاب، والعوائق أمامها لإتمام هذا الزواج، وسخرت أختها وصديقتها نفيسة بنت منبه وأخاها لذلك، وهي الطاهرة المصونة العفيفة التي يحلم كل قرشي بها، ولم يمنعها فقر النبي صلى الله عليه وسلم من زواجها، بل بعثت له بما يحتاجه لخطبتها.
إنه درس لكل امرأة مسلمة داعية، أن تعرف من تختار ليكون زوجا لها، وعلى من توافق ليكون شريك حياتها ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) (3).
(1) متفق عليه البخاري 6/ 339 ومسلم (2430).
(2)
إسناده صحيح وأخرجه الترمذي (3888) وصححه. انظر شرح السنة للبغوي 4/ 157/ 3955.
(3)
الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وقال الألباني: حديث حسن. صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 134 ح 267.
ولا ينقص من شأنها أن تسعى لذلك، ولا يخرم مروءتها أن تهيىء السبل لذلك، وأن لا يكون المال أو المنصب أو الجاه أو الجمال فقط هي القيم التي تنطلق منها المرأة المسلمة.
إنه الدين أولا، والخلق ثانيا. ولو كان ذا فقر مدقع أو غرم مفظع.
3 -
(أما بعد فإن محمدا مما لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وعقلا وفضلا. وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة).
فقد أدرك هذا المعنى أبو طالب على جاهليته، وكان لقيم الخلق والشرف والنبل وزن أكبر من المال الوفير والجاه العريض، وقيمه أبو طالب بأنه ظل زائل، وعارية مسترجعة.
فهل يدرك إخواننا وأخواتنا هذه المعاني التي أدركها الجاهليون قبل الإسلام، وينطلقون في زواجهم من هذه الأحكام؟!
4 -
إن الجانب الديني في سعي خديجة الحثيث، رضي الله عنها لتتزوج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبدو واضحا إلا من خلال الفقرة الأخيرة.
فهي تتابع الإرهاصات واحدة تلو الأخرى (1)، لقاء الراهب
(1) ذكر الفاكهي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة- أي ولعله بعد أن طلبت منه صلى الله عليه وسلم الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها- فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة. فقال: انظري ما تقول له خديجة، =
نسطورا، قصة الملكين اللذين يظللانه كما روى لها ميسرة خادمها. حديث ورقة، وأمله أن تكون قد تزوجت بنبي هذه الأمة. كما رواه ابن إسحاق يؤكد هذا المعنى. وفي السيرة الحلبية.
(كانت لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يوما فيه، فجاءهن يهودي وقال: أيا معشر نساء قريش، إنه يوشك أن يكون فيكن نبي قرب وجوده. فأيكن استطاعت أن تكون له فراشا فلتفعل. فحصبته النساء، وقبحنه، وأغلظن له. وأغضت خديجة على قوله، ووقع ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي (أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة بما تقدم) قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقا، ما ذاك إلا هذا) (1).
…
= فخرجت خلفه. فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت:
بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي سيبعثك لي، فقال لها: والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا. فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك. السيرة الحلبية 1/ 228.
(1)
المصدر نفسه 1/ 227، 228. وقد ذكر الصالحي في سبل الهدى والرشاد نقله عن ابن اسحاق في المبتدأ 20/ 222.