الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قيل: تلك جاء فيها نصوص صحيحة صريحة، قلنا: وكذلك والداه؟
فإن قيل: إنما نتوقف لما جاء مما يعارضها، قلنا: لو جاز لمؤمن أن يتوقف فيما صح لمجرد أخبار مكذوبة وموضوعة تعارضها؛ لجاز التوقف عن كثير من شرائع الإسلام، وكان كلما أراد مبطلٌ أن يبطل سنة أو آية أو حكمًا، كَذَبَ واخترع نصًا ونسبه للنبي صلى الله عليه وسلم فيحصل على غاية ما يريد، وهل يطلب أعداء الله منا أكثر من أن نتوقف في قبول ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم.
انظر ما في هذا المسلك من المزلق العظيم والحظر الجسيم؛ أن يصوِّر الشكُّ والتردد في الإيمان بما جاء به صلى الله عليه وسلم، على أنه توقف في مسألة شرعية ورعًا عن القول بلا علم، فهذا والله منتهى التلبيس، بل الوقف في مثل هذه المسألة لا يجوز أبدًا؛ لأنه قد صحت النصوص الصريحة، وما يقابلها، لا يرتقي للضعف فضلًا عن أن يكون ندًا لما صح، والله المستعان.
فائدة هامة:
(وهي أن الغفلة والجهل ليست عذرًا بكل حال)، أعني أن أفضل توصيف لحال والدي النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أهل الجاهلية أنهم من المقلدين السائرين مع رؤسائهم وآبائهم دون تفكير في صواب ما هم عليه من عدمه، وقد ذكر الإمام ابن القيم هذا الصنف في كتابه الماتع (طريق الهجرتين) ننقله بشيء من الاختصار؛ قال رحمه الله: الطبقة السابعة عشر:
طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعًا لهم يقولون: إنا وجدنا آباءنا على ملة وإنا على أسوة بهم، ومع هذا فهم تاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم؛ كنساء المحاربين، وخدمهم، وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطائفة - الطبقة - كفار وإن كانوا جهالًا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع، أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقلْ به أحد من أئمة المسلمين، لا الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وإنما يُعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام. (1)
(1) طريق الهجرتين 1/ 607.
وصحَّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَة"(1)، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا، فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا، فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارًا؛ فإن الكافر من جحد توحيد الله، وكذَّب رسوله، إما عنادًا أو جهلًا، وتقليدًا لأهل العناد، فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند، فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم فهم من الكفار، وإن الأتباع مع متبوعيهم، وأنهم يتحاجون في النار وأن الأتباع يقولون:{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} (الأعراف 38).
وقال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} (غافر: 47، 48)، فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب، ولم يغنِ عنهم تقليدهم شيئًا.
وفرق بين مقلد تمكن من العلم، ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه والقسمان واقعان في الوجود.
فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضًا:
أحدهما: مريد للهدى مؤْثِر له، محب له، غير قادر عليه، ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا رغبة له في الحق، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
(1) البخاري (6163)، مسلم (111).
فالأول يقول: يا رب، لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكني لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي.
والثاني: راضٍ بما هو عليه لا يؤْثِر غيره، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما - الأول والثاني - عاجز، ولكن الثاني لا يلحق بالأول لما بينهما من الفرق.
فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزًا وجهلًا، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض؛ فتأمل هذا الموضع، والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق.
هذا في أحكام الثواب والعقاب، والتعيين موكول إلي علم الله وحكمه، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية علي ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبني على أربعة أصول:
الأصل الأول: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (الإسراء: 15)، وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذب مَنْ جاءه الرسول، وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، قال الله تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} (الزخرف: 76)، والظالم من عرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو تمكن من معرفته بوجه، وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعجز عن ذلك، فكيف يقال إنه ظالم؟ !
الأصل الثاني: أن العذاب يُستَحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها، والعمل بها، وبموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها.