الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أميته كحجة دامغة على مصدر رسالته السماوية، فلا يخالج نفسية المؤمن شك ولو بسيط أنه قد جاء بشيء من عنده، وسبحان من وسعت حكمته كل شيء.
فمفهوم ثقافة الأنبياء العالية، وإن كان القرآن لم يشر إليه من قريب أو من بعيد، لا نعترض عليه، ولكن مفهوم أمية محمد صلى الله عليه وسلم لا يقلل من نبوته، وإن كانت الأمية في حد ذاتها نقص، يتنزه عنه العوام، كذلك لا يقلل من تفضيل الله تعالى له عن العالمين؛ فتفضيله واجتبائه إياه صلى الله عليه وسلم كان بأنه يحمل ختام الشرائع ونهاية رسالات السماء إلى بني أدم، وإن ذلك النبي الأمي هو الذي رسم النهج الذي سار عليه من بعده الملايين والملايين من عباد الله، على اختلاف طبقاتهم وألسنتهم وألوانهم، وهذا ما لم يحدث مع أحد من العالمين سواه.
الوجه الرابع:
الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن كتابا مقرؤًا بل كلامًا مسموعًا ألقاه جبريل على نبيه صلى الله عليه وسلم فأين هذا الكتاب الذي تدعون أنه قرأ منه.
الشبهة الثالثة
الشبهة المتعلقة بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78 - 79].
نص الشبهة:
قالوا: هذه الآية لا تحتاج إلى تفسير، بل تكون قرينة لوضوحها على فهم بقية الآيات الأخرى حيث قال:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} ثم أتبعها لبيان ذلك وسبب الأمية هي لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وهذا هو المعنى الثاني للأمية، ومنه يفهم قوله:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . فالأميون الذين لم يطلعوا على كتاب من قبل، ولم يأتهم نبي بتعاليم، وكونه منهم أي من هؤلاء أي من أنفسهم لا غريب عليهم مثل قوله {الْأُمِّيَّ} فنسبة الأمية إليه باعتباره من هؤلاء.
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول:
1 -
إن لفظ {وأمِّي} في الأصل يطلق على من لا يقرأ ولا يكتب، وقد يطلق اللفظ ويراد به معانٍ أخرى؛ ولكن لا بد أن يوجد قرينة لتصرف معناه عن المعنى الأصلي الذي يرد على الذهن من أول وهلة.
2 -
فكما أن الجهل بالشيء درجات وأنواع، فكذلك الأمية أنواع:
فهناك أمية في القراءة، وهناك أمية في العلم الإلهي، وهناك أمية في العلوم الدنيوية.
فنحن نسمع الآن أن من لم يتعلم الكمبيوتر فهو أمي، ويُقصد ذلك بالأمية في علوم دنيوية، فهناك علوم دنيوية من لم يتعلمها، قد يتهمه البعض بأنه أمي، بالرغم من أنه يقرأ ويكتب.
لذلك قال ابن تيمية: والصواب: أن الأمي نسبة إلى الأمة، كما يقال: عامِّي نسبة إلى العامَّة، التي لم تتميز عن العامَّة بما تمتاز به الخاصة، وكذلك هذا لم يتميز عن الأمة بما يمتاز به الخاصة من الكتابة والقراءة (1).
فمسألة التميز عن عموم الناس بميزات خاصة معينة، تُعرف من خلال سياق الكلام، وهي التي تحدد ماهية كلمة {أمي} .
3 -
ولنتعرف على معنى كلمة {أمي} في هذه الآية:
وهي تعني الأمية في العلم الإلهي، حتى ولو كان من يوسف بذلك يقرأ ويكتب، وفي هذه الحالة يوصف بها: إما من ليس له كتاب من عند الله، أو من لا يفهم ويطبق هذا الكتاب الذي عنده من الله.
عن ابن عباس وقتادة في قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظًا وقراءة بلا فهم، ولا يدرون ما فيه.
4 -
فمما سبق يتضح لنا أن لفظ {أمِّي} قد صرف عن معناه الأصلي -أي الذي لا يقرأ ولا يكتب- وذلك لعدة قرائن:
قوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} :
(1) مجموع الفتاوى 5/ 429.
قال ابن تيمية: فإنه سبحانه وتعالى قال: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} لم يقل: لا يقرؤون ولا يسمعون، ثم قال:{إِلَّا أَمَانِيَّ} وهذا استثناء منقطع. لكن يعلمون أماني إما بقراءتهم لها، وإما بسماعهم قراءة غيرهم، وإن جعل الاستثناء متصلًا، كان التقدير لا يعلمون الكتاب إلا علم أماني، لا علم تلاوة فقط بلا فهم، والأماني: جمع أمنية وهي التلاوة، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]، قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة
…
آخرها لاقى حمام المقادر (1)
قوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} :
قال ابن تيمية: وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} أي: تلاوة فهم لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم، قاله الكسائى والزجاج. وكذلك قال ابن السائب: لا يحسنون قراءة الكتاب، ولا كتابته إلا أماني، إلا ما يحدثهم به علماؤهم. وقال أبو روق وأبو عبيدة: أي تلاوة وقراءة عن ظهر القلب، ولا يقرؤونها في الكتب، ففي هذا القول جعل الأماني التي هي التلاوة تلاوة الأميين أنفسهم، وفي ذلك جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم، وكلا القولين حق والآية تعمهما.
وقد يقال: إن قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} أي الخط، أي: لا يحسنون الخط، وإنما يحسنون التلاوة، ويتناول -أيضًا- من يحسن الخط والتلاوة، ولا يفهم ما يقرؤه ويكتبه. . . فإن قيل: فقد قال بعض المفسرين {إِلَّا أَمَانِيَّ} : إلا ما يقولونه بأفواههم كذبًا وباطلًا، وروى هذا عن بعض السلف واختاره الفراء.
وقال الأماني: الأكاذيب المفتعلة، قال بعض العرب لابن دأب -وهو يحدث: أهذا شيء
(1) مجموع الفتاوى 5/ 429 - فصل: وهذه الألفاظ المحدثة المجملة النافية.
رويته أم تمنيته، أي: افتعلته؟ فأراد بالأماني الأشياء التي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم، ثم أضافوها إلى الله من تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم (الأماني): يتمنون على الله الباطل والكذب، كقولهم:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وقولهم:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، وهذا -أيضًا- يروي عن بعض السلف.
قيل: كلا القولين ضعيف، والصواب الأول، لأنه سبحانه قال:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، وهذا الاستثناء إما أن يكون متصلًا أو منقطعًا، فإن كان متصلًا لم يجز استثناء الكذب ولا أماني القلب من الكتاب، وإن كان منقطعًا فالاستثناء المنقطع إنما يكون فيما كان نظير المذكور وشبيهًا له من بعض الوجوه، فهو من جنسه الذي لم يذكر في اللفظ، ليس من جنس المذكور؛ ولهذا لا يصلح المنقطع حيث يصلح الاستثناء المفرغ، وذلك كقوله:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} ثم قال: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] فهذا منقطع؛ لأنه يحسن أن يقال: لا يذوقون إلا الموتة الأولى، وكذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لأنه يحسن أن يقال: لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة، وقوله:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] يصلح أن يقال: وما لهم إلا اتباع الظن، فهنا لما قال:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ، يحسن أن يقال: لا يعلمون إلا أماني؛ فإنهم يعلمونه تلاوة، يقرؤونها، ويسمعونها، ولا يحسن أن يقال: لا يعلمون إلا ما تتمناه قلوبهم، أولا يعلمون إلا الكذب؛ فإنهم قد كانوا يعلمون ما هو صدق -أيضًا- فليس كل ما علموه من علمائهم كان كذبًا، بخلاف الذي لا يعقل معنى الكتاب؛ فإنه لا يعلم إلا تلاوة.
وأيضًا فهذه الأماني الباطلة التي تمنوها بقلوبهم وقالوها بألسنتهم، كقوله تعالى:{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} قد اشتركوا فيها كلهم، فلا يخص بالذم الأميون منهم، وليس لكونهم أميين مدخل في الذم بهذه، ولا لنفي العلم بالكتاب مدخل في الذم بهذه، بل الذم بهذه مما يعلم أنها باطل أعظم من ذم من لا يعلم أنها باطل؛ ولهذا لما ذم الله بها عمم ولم يخص، فقال تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111](1).
قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} :
قال ابن تيمية: والكتاب هنا المراد به: الكتاب المنزل، وهو التوراة؛ ليس المراد به الخط، فإنه قال:{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] فهذا يدل على أنه نفى عنهم العلم بمعاني الكتاب، وإلا فكون الرجل لا يكتب بيده لا يستلزم أن يكون لا علم عنده، بل يظن ظنًا؛ بل كثير ممن يكتب بيده، لا يفهم ما يكتب، وكثير ممن لا يكتب يكون عالمًا بمعاني ما يكتبه غيره. وأيضًا فإن الله ذكر هذا في سياق الذم لهم، وليس في كون الرجل لا يخط ذم إذا قام بالواجب، وإنما الذم على كونه لا يعقل الكتاب الذي أنزل إليه، سواء كتبه وقرأه أو لم يكتبه، ولم يقرأه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا أوان يرفع العلم". فقال له زياد بن لبيد: كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنَّه ولنقرِئنَّه نساءنا؟ فقال له: "إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغنى عنهم؟ "(2).
ولأنه قال تعالى قبل هذا: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] فأولئك عقلوه ثم حرفوه، وهم مذمومون، سواء كانوا يحفظونه بقلوبهم، يكتبونه ويقرؤونه حفظًا وكتابة، أو لم يكونوا كذلك، فكان من المناسب أن يذكر الذين لا يعقلونه، وهم الذين لا يعلمونه إلا أماني؛ فإن القرآن أنزله الله كتابًا متشابهًا مثاني، ويذكر فيه الأقسام والأمثال، فيستوعب الأقسام،
(1) مجموع الفتاوى 5/ 429 - فصل: وهذه الألفاظ المحدثة الجملة النافية.
(2)
رواه الترمذي (2865)، والنسائي في الكبرى (5909) وصححه الألباني في تخريج اقتضاء العلم والعمل (89).
فيكون مثاني، ويذكر الأمثال فيكون متشابهًا. وهؤلاء وإن كانوا يكتبون ويقرؤون فهم أميون من أهل الكتاب، كما نقول نحن لمن كان كذلك: هوامي، وساذج، وعامي، وإن كان يحفظ القرآن ويقرأ المكتوب إذا كان يعرف معناه.
وإذا كان الله قد ذم هؤلاء الذين لا يعرفون الكتاب إلا تلاوة دون فهم معانيه، كما ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، دل على أن كلا النوعين مذموم: الجاهل الذي لا يفهم معاني النصوص، والكاذب الذي يحرف الكلم عن مواضعه. وهذا حال أهل البدع، فإنهم أحد رجلين: إما رجل يحرف الكلم عن مواضعه، ويتكلم برأيه، ويؤوله بما يضيفه إلى الله فهؤلاء، يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون: هو من عند الله، وإما رجل مقلد أمِّي، لا يعرف من الكتاب إلا ما يسمعه منهم، أو ما يتلوه هو، ولا يعرف إلا أماني وقد ذمه الله على ذلك، فعلم أن الله ذم الذين لا يعرفون معاني القرآن، ولا يتدبرونه، ولا يعقلونه، كما صرح القرآن بذمهم في غير موضع، فيمتنع مع هذا أن يقال: إن أكثر القرآن أو كثيرًا منه لا يعلمه أحد من الخلق إلا أماني، لا جبريل ولا محمد ولا الصحابة ولا أحد من المسلمين؛ فإن هذا تشبيه لهم بهؤلاء فيما ذمهم الله به.
فإن قيل: أفلا يجب على كل مسلم معرفة معنى كل آية؟ قيل: نعم، لكن معرفة معاني الجميع فرض على الكفاية، وعلى كل مسلم معرفة ما لا بد منه، وهؤلاء ذمهم الله؛ لأنهم لا يعلمون معاني الكتاب إلا تلاوة، وليس عندهم إلا الظن، وهذا يشبه قوله:{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110].
وأيضًا فإنه قال: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} فدل على أنه ذمهم على نفي العلم، وعلى أنه ليس معهم إلا الظن، وهذا حال الجاهل بمعاني الكتاب لا حال من يعلم أنه يكذب، فظهر أن هذا المصنف ليس هم الذين يقولون بأفواههم الكذب والباطل، ولو أريد ذلك لقيل:(لا يقولون إلا أماني)، لم يقل:(لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، بل ذلك المصنف هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون: هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويكتبون الكتاب بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلًا، فهم يحرفون معاني