الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الأول: تناقض الروايات المذكورة، ففي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار زيد بن حارثة وهو غائب فاستقبلته زينب، وفي بعضها أن زيدًا كان مريضًا، فزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم وأتم التسليم جالسًا هو وزيد وزينب، فكيف يكون زيد غائبًا ومريضًا في فراشه في وقت واحد!
الوجه الثاني: والروايات التي ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار زيدًا اختلفت في كيفية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله عنها، فرواية تقول: بأنه كان واقفًا بالباب فخرجت إليه، ورواية: بأنه كان واقفًا بباب زيد فرفعت الريح ستر الشعر فرآها فأعجبته.
وفوق ذلك كله كيف يعاتبه الله كما تقول هذه الروايات؛ لأنه أخفى ذلك عن الناس ولم يعلن أنه يحب زوجة زيد، وأنه يود لو طلقها ليتزوجها؟ تَصَوّرٌ مثل هذا كاف في ظهور بطلان هذه الروايات.
الوجه الثاني عشر: كلام بعض الأئمة المحققين من المفسرين وغيرهم حول تفسير الآية ونقد الروايات
.
لقد وقف العلماء أمام هذه الروايات موقفًا حازمًا صلبًا، فمنهم من ذكرها، وفندها، ومنهم من أضرب عنها صفحًا بعد الإشارة إلى ضعفها، ونكارتها.
1 -
قال ابن العربي: بعد أن ذكر ملخص هذه الروايات، وبيّن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم: هذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد. (1)
2 -
قال القرطبي: بعد أن ذكر التفسير الصحيح لما كان يخفيه صلى الله عليه وسلم، وما الذي كان يخشاه من الناس: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم، فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد، وربّما أطلق بعض المُجّان لفظ عشق، فهذا إنما صدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخِفّ بحرمته. (2)
(1) أحكام القرآن (3/ 1543).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 191).
3 -
وقال ابن كثير: بعد أن ذكر الروايات الصحيحة: ذكر ابن أبي حاتم، وابن جرير ها هنا آثارًا عن بعض السلف أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحتها فلا نوردها. (1)
4 -
قال القاضي عياض: اعلم - أكرمك الله، ولا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدًا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها، كما ذُكِرَ عن جماعة من المفسرين، وأصح ما في هذا: ما حكاه أهل التفسير، عن علي بن حسين: أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد قال له:"أمسك عليك زوجك واتق الله". وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وتطليق زيد لها.
وقال القرطبي: وقد اجترأ بعض المفسرين في تفسير هذه الآية، ونسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به ويستحيل عليه، إذ قد عصمه الله منه ونزَّهه عن مثله، وهذا القول إنما يصدر عن جاهلٍ بعصمته صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مُسْتَخِفٍّ بحرمته، والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين: أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح، ولا يليق بذوي المروءات، فأحرى بخير البريات ..
وقال ابن حجر: بعد أن ذكر الروايات الصحيحة: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها (2).
وهناك ثُلّة كبيرة من علماء الإسلام في العصر الحاضر تفطنوا لمثل هذه الأخبار، ورمقت أبصارهم ما تنطوي عليه من مداخل خطيرة لا تليق بمقام الأنبياء، فأنار الله بصائرهم لكشف النقاب عن هذه الآثار الدخيلة، فكان لهم الفضل في التنبيه وإيقاظ الفكر الإسلامي للتصدي لكل دسيسة يراد منها النيل من قداسة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تشويه الحقائق التاريخية في تراث الإسلام.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: وللقُصَّاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول، ويجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه التُرَّهات التي نسبت إليه زورًا وبهتانًا. (3)
(1) تفسير القرآن العظيم (3/ 491).
(2)
فتح الباري (8/ 524).
(3)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (صـ 275).
وقال الشيخ محمد أبو شهبة تحت عنوان: إبطال ما ورد في قصة السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها: ومن ذلك: ما ذكره بعض المفسرين سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (الأحزاب: 37).
وذكر الرواية بنحو ما سبق ثم قال: وهذه الرواية إنما هي من وضع أعداء الدين، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم متهم بالكذب، والتحديث بالغرائب، ورواية الموضوعات، ولم يذكر هذا إلا المفسرون والإخباريون المولعون بنقل كل ما وقع تحت أيديهم من غث أو سمين، ولم يوجد شيء من ذلك في كتب الحديث المعتمدة التي عليها المعول عند الاختلاف، والذي جاء في الصحيح يخالف ذلك، وليس فيه هذه الرواية المنكرة، روى البخاري في صحيحه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن هذه الآية:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} : نزلت في شأن زينب ابنة جحش، وزيد بن حارثة واقتصر على هذا القدر، وليس فيه شيء من هذا الخلط.
وقال ابن حجر بعد ذكر رواية قتادة: ووردت آثار أخرى، أخرجها ابن أبي حاتم، والطبري، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، وما أوردته هو المعتمد، وهذه شهادة لها قيمتها، والذي أورده هو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن طريق السدي، في هذه القصة، فساقها سياقًا واضحًا حسنًا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب: عمة رسول الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوّجها زيدَ بن حارثة مولاه، فكرهَتْ ذلك، ثم رضيتْ بما صنع رسول الله، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه بعد، أنها من أزواجه، فكان يستحيي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال بين زيد وزينب ما يكون بين الناس، فأمره رسول الله أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى أن يعيب عليه الناس، ويقولوا: تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدًا. وهو السبب الصحيح، وروى ابن أبي
حاتم أيضًا، والطبري، كلٌّ بسنده عن علي بن الحسين بن علي، قال: أعلم الله نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها، وقال له:"اتق الله، وأمسك عليك زوجك"، قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، ثم ذكر قول ابن كثير السابق ثم قال: التفسير الصحيح للآية:
وهاك تفسير الآية الذي يساير روحها ونصها، وتشهد له الروايات الصحيحة، وتتجلى فيه حكمة الله العالية؛ ذلك: أن العرب كان من عادتها التبني، وكانت تلحق الابن المتبنى بالعصبي، وتجري عليه حقوقه في الميراث، وحرمة زوجته على من تبناه، وكانت تلك العادة متأصلة في نفوسهم، كما كان كبيرًا أن تتزوج بنات الأشراف من موال، وإن أعتقوا، وصاروا أحرارًا طلقاء، فلما جاء الإسلام، كان من مقاصده: أن يزيل الفوارق بين الناس التي تقوم على العصبية، وحمية الجاهلية، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وأن يقضي على حرمة زوجة الابن المتبنى، وقد شاء الله أن يكون أول عتيق يتزوج بعربية في الصميم من قريش هو زيد، وأن يكون أول سيد يبطل هذه العادة - حرمة زوجة الابن المتبنى - هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بنات الأشراف أن يتزوجوا بأزواج أدعيائهم، وقد قضوا منهن وطرًا، وإمام المسلمين ومن يصدع بأمر الله، قد فتح هذا الباب وتزوج حليلة متبناه بعد فراقها، وقد كان كلُّ ما أرد الله، فرسول الله يخطب زينب لزيد، فتأبى، ويأبى بعض أهلها، ويكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلب، وينزل الوحي بذلك:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} ؛ فلم يبق إلا الإذعان من زينب وأهلها، ولكن زيدًا وجد منها تعاظمًا، فيرغب في فراقها، ويستشير الرسول، فينصحه بإمساكها، وكان جبريل قد أخبر رسول الله بأن زينب ستكون زوجة له، وسيبطل الله بزواجه منها هذه العادة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وجد غضاضة على نفسه أن يأمر زيدا بطلاقها، ويتزوجها من بعد، فتشيع المقالة بين الناس، أن محمدًا تزوج حليلة ابنه، وبذلك: يصير عرضة للقيل والقال من أعدائه، وهو في دعوته إلى دين الله أحوج إلى تأييد المؤيدين، فهذا المقدار من خشية الناس حتى أخفى ما أخبره الله به - وهو نكاحها - هو ما عاتبه الله عليه، وقد صرح الله
في كلامه بالسبب الباعث على هذا الزواج فقال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} ، هذا هو التفسير الذي يتفق مع الحق والواقع. وقد نسج المستشرقون، والمبشرون، أعداء الدين، من تلك الروايات المختلقة الواهية ثوبًا من الكذب والخيال، وصوروا السيدة زينب وقد رآها النبي الطاهر، كما يصور الشباب الطائش إحدى غادات المسرح، وطعنوا في غير مطعن، فالروايات ليس لها أساس من الصحة فبناؤهم على غير أساس.
روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب: "إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة، فإني قد رضيته لك"، قالت: لكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيّم قومي، وبنت عمتك، فنزلت الآية:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} قالت: قد أطعتك، فاصنع ما شئت، فغير معقول، والحال كما ذكرت، ألا يكون شاهدها، فلو كان يهواها، أو وقعت من قلبه، فأي شيء كان يمنعه من زواجها، وإشارة منه كافية؛ لأن يقدموها له وما ملكت؟ فمثله وهو قي الذروة من قريش نسبًا وخلقًا ودينًا، ما كان يقدع أنفه.
ومن بعد ذلك، فحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صباه إلى كهولته إلى أن توفي ترُدُّ هذه الفرية؛ فحياته لم تكن حياة حب واستهتار، وإنما كانت حياة الشرف والكرامة، ما عرفت الدنيا أطهر ذيلًا منه، ولا أعف منه، ولا لمست يدُه قطُّ يدَ امرأة لا تحل له بشهوة (1)، وكيف يكون على هذا الحال - الذي افتروه من خاطبه - من يعلم السر وأخفى، بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب هوى، أو غرام لأشبع رغبته وهو في ميعة الصبا وشرخ الشباب، أيام أن كان الغيد الكواعب من بنات الأشراف تشرئب أعناقهن إلى أن يكنّ حليلات له، ولكنه قضى شبابه مع سيدة تزيد على الأربعين، ورضيها زوجًا له، حتى توفاها الله، ومهما قيل في جمالها: فهناك غيرها من الأبكار الشابات
(1) قلت: ولا من غير شهوة.
من يفقنها في الجمال، وللأبكار ما لهن من جاذبية وروعة، ومن قضى بغير ذلك: فقد خالف سنة الله في الفطرة، واتبع شواذ العادات.
ولم يكن زواج رسول الله بزوجاته إلا لحكم ومقاصد سامية، ثم قال: وزواجه بالسيدة: زينب بنت جحش؛ لإبطال هذه العادة، ويطول بي القول لو استقصيت الحكم في زواجه صلى الله عليه وسلم فلذلك مقام آخر. والعجب من هؤلاء الطاعنين إذا وقعوا على ما يشفي غليلهم من باطل الروايات، تمادوا في قلب الحقائق، وأنكروا عقولهم، وتجاهلوا الظروف والملابسات، والبيئة، وأحكامها، والعادات وسلطانها إلى غير ذلك مما يتفيهقون به، بينما يطيشون بالحكم على روايات في غاية الصحة بأنها موضوعة؛ ولا حامل لهم في الحالين إلا الهوى والتعصب. وبعد: فإذا كانت القصة كما رأيت، لا سند لها من جهة النقل، وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذبها، وطبيعة البيئة التي جرت فيها تجلت أصولها، فلم يبق إلا أنها موضوعة (1).
وبنحو هذا قال الشيخ محمد بن عفيفي الخضري: ومما جاء فيه بعد الإشارة إلى ما ذكره المؤرخون: وهذا مما يكذبه أن نساء العرب اتكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه، وزينب بنت عمته أسلمت قديمًا، ورسول الله بمكة، فكيف لم يرها، وقد مضى على إسلامها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته، إلا حينما رفعت الريح الستر مصادفة، ورسول الله هو الذي زوجها زيدًا؟ فلو كانت له فيها رغبة حب أو عشق لتزوجها، هو ولا مانع يمنعه من ذلك، ومن منا يتصور السيد الأكرم يقول لقومه إنه مرسل من ربه، ويتلو عليهم صباح مساء أمر الله له بقوله في سورة الحجر المكية:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} (الحجر: 88). وفي سورة طه المكية أيضًا: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (طه: 131). ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل من متبعيه، وينظر إلى زوجه مصادفة ثم يشتهي زواجها؟ إن هذا لأمر عظيم تقشعر بذلك صدورنا، ولو حدث أمر مثل ذلك من أقل الناس لعيب عليه، فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس خلقًا، وأبعدهم عن
(1) الإسرائيليات في التفسير للشيخ محمد أبي شهبة رحمه الله صـ (323) بتصرف.