الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غاية ما في المسلك الأول للسيوطي أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة، والراجح فيهم حسبا ما قرره أنهم يُمتَحنون ولا ندري ما يكون حالهم، فمنهم من يطيع فينجو، ومنهم من يعصي فيهلك، والجزم بأحد المصيرين لأبويه صلى الله عليه وسلم رجمٌ بالغيب لو لم يرد فيهما شيء، فكيف وقد جاء النص بأن أباه في النار ونُهِيَ عن الاستغفار لأمه؟ ! ، فلو صح أنهما من أهل الفترة لكان النص مفيدًا أنهما سيعصيان حتمًا، فيكون القول بنجاتهما باطلًا بأي حال.
قال ابن حجر في الإصابة: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعًا فينجو، لكن ورد في أبي طالب ما يدفع ذلك، وهوما تقدم من آية براءة، وما ورد في الصحيح عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك أبي طالب، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال:"هو في ضحضاحٍ من النار". (1)
والرد على ذلك أن ما ذكره رحمه الله رجاءٌ، ولعله غفل عما أورده هو من النصوص في نفس الموضوع، التي تدل على أن أبا طالب مات على ملة عبد المطلب.
ثم غايته رجاء ولا يصح دليلًا يستدل به لو لم يأتِ في المسألة نصوص أخرى، فكيف وقد صحت النصوص بخلافه؟ !
الوجه الخامس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إنما تكون للموحدين، بل لمن أذن الله له صلى الله عليه وسلم أن يشفع فيهم من الموحدين
.
إن الله عز وجل عندما يُشَفِّعُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إنما يشفعه في أهل التوحيد فقط، بل ليس كلهم؛ لأن الشفاعة إنما تكون بإذن الله، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل الله ما ليس له، كما قال الله - تعالى - في شأن نوح عليه السلام عندما قال:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قال له عز وجل: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (هود: 64)، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله لا يغفر الشرك، ولا يأذن في الشفاعة لأهله، وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أنسِ بنِ مَالِك رضي الله عنه قَالَ: "يَجْمَعُ الله الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 7/ 241.
مَكَانِنَا هَذَا" حتى قال: "فَيَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: لِي ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ". (1)
ثم كيف يدخل والداه في الشفاعة، والحال أنهما عند السيوطي في هذا المسلك من أهل الفترة؟ فإذا كان سيشفع فيهما على كل حال فما فائدة الامتحان؟ أليس هذا تلاعبًا بالكتاب والسنة، وروغانًا عن دلالتهما القطعية لمجرد التعصب؟ !
فإن قيل: إن هذا - أي الشفاعة - لمن مات مشركًا، خاص بقرابته وآل بيته، قلنا: إن الله عز وجل قال في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48). وقد جاء ذلك في غير موضع من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة. فَعَنْ عَبْدِ الله بنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ"، وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" (2).
كما أن الشرائع السماوية جميعًا جاءت بتقرير هذا الأصل العظيم، وهو أن القرابة والنسب لا تنفع المشرك، وضرب الله لنا أمثلة من الأنبياء أنفسهم، فمنهم مَن كفر أبوه ومنهم مَن كفر ولده، ومنهم من كفرت زوجه وهكذا دواليك، ثم يأتي أصحاب الأهواء بالمنكرات والشواذ
(1) البخاري (7410، 7510)، مسلم (193).
(2)
الحاوي للفتاوي 2/ 255، البخاري (1238)، مسلم (92).
من الروايات والمذاهب الشاذة والأقوال الباطلة المحرفة للنصوص الصحيحة الصريحة، لينسفوا هذا الأمر برمَّته من أجل اتباع الهوى، ووالله إن إيمان أبويه صلى الله عليه وسلم لهوى كل مؤمن يحبه صلى الله عليه وسلم، لكن ما حيلة المؤمن وقد حكم الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنهما ماتا على الشرك، وأن أباه في النار، أيسوغ بعد هذا أن يعاند المرء ويتبع هواه؟ !
نقض المسلك الثاني:
وهو أنهما كانا على أصل التوحيد، فلم يقعا في الشرك وعبادة الأوثان، فهم كباقي الموحدين الحنيفيين الذين ماتوا قبل البعثة كزيد بن عمرو، وورقة بن نوفل وغيرهما.
قلت (الزهراني): أما عن ذكرهم فقد جاءت النصوص بذلك، وأما والداه فقد ثبت أنهما في النار كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكيف يسوِّيِ بين مَن فرَّق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بينهم؟
قال السيوطي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنْ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ". (1)
واستدل السيوطي بهذا الحديث وأمثاله، على أن كل أصل من أصول النبي صلى الله عليه وسلم من آدم إلي أبيه عبد الله، فهو من خير أهل قرنه وأفضلهم.
ولكن الخيرية للقرن بعامة، لا تعني الخيرية المطلقة، والكلام في هذه النصوص وما صح منها، يتكلم عن الخيرية في النسب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ من أشرف الناس نسبًا، كما جاء في الحديث الذي ساقه أيضًا السيوطي:"إِنَّ الله اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ"(2) وهذا الحديث يغني عن كل النصوص الضعيفة والمناكير التي جاء بها السيوطي، ولكن ما معناه؟
معناه كما قال كل الأئمة ممن شرح هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم سليل الشرف والحسب، وأنه مطهَّر من رجس الزنا في نسبه الكريم، وليس في هذا أدني دلالة على أن المراد بالاصطفاء
(1) البخاري (3557).
(2)
مسلم (2276).
الخيرية المطلقة، ولا أنهم كانوا على التوحيد، بدليل أن في الحديث: (إن الله اصطفى قريشًا من كنانة أو من بني كنانة، ومن قريش بني هاشم، فهل كان هؤلاء كلهم على التوحيد؟
الجواب: لا بالإجماع.
وعليه، فغاية ما في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أشرف الناس حسبًا ونسبًا، وأن نسبه طاهر مطهر من السفاح.
ثم يقال: لو دلَّ ذلك على مراد السيوطي بالمفهوم؛ فإن المتقرر عند الأصوليين؛ أن المنطوق مقدَّمٌ على المفهوم، وحديث أَنَسٍ رضي الله عنه الذي في مُسْلِمٍ وغيره صريح صحيح في أن أباه صلى الله عليه وسلم في النار.
ولو صحَّ منهج السيوطي وسلم للنصوص الصحيحة الصريحة، لما احتاج إلي تسويد العشرات من الصحائف، وليِّ أعناق النصوص، والبحث في بطون الكتب عن المنكر والشاذ والموضوع، لدعم رأيه المخالف للسلف، لأن الحديث نصٌّ في المسألة.
نقض المسلك الثالث: أن الله عز وجل أحيا له أبويه حتى آمنا به.
وقد تقدم رد ابن تيمية بطوله على هذه الشبهة التي أبطلها وأثبت ضلالها وزيفها.
وبهذا يتبين لك أن كل نصوص إحياء الوالدين مكذوبة موضوعة من أخبار الأفاكين والوضاعين.
قال السيوطي: وقال السهيلي بعد إيراده أحاديث الإحياء: الله قادر على كل شيء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أن يختص بما شاء من فضله سبحانه، وينعم عليه بما شاء من كرامته. (1)
نعم الله تعالى قادر على كل شيء، وليس إنكار أئمة السنة ما جاء به السيوطي مبنيًا على استبعاده واستحالته، بل هو مبني على عدم الثبوت، لأن النصوص التي جاء فيها ذلك موضوعة مختلقة؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإن ذلك يعارض الثابت من النصوص الصحيحة الصريحة التي اتفق أئمة السلف على ثبوتها، وعلى الإيمان بما فيها تصديقًا وقبولًا، وإلا فلكل أحد أن يقول ما شاء، فللرافضة أن تقول: أحيا الله أبا طالب فآمن به، وليس ذلك بعيدًا عن قدرة الله تعالى، ويقول غيرهم: قد أحيا الله أبا لهب فآمن به صلى الله عليه وسلم،
(1) الحاوي للفتاوي 2/ 278.
وليس ذلك بعيدًا عن قدرة الله تعالى، وهلم جرا، ولا يخفى على كل أحد أن دين الله تعالى مبني على الاتباع لا على الابتداع والاختراع.
وهو صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فضلًا عن أن يملك لغيره، قال تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (الأعراف: 188).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشهور لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فَعَمَّ وَخَصّ إلى أن قال: "يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ الله شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا"(1).
وأمرُ الإيمان منحة من الله، والهداية ملك لله تعالى، لا يملك النبي صلى الله عليه وسلم أن يهبها لأحد أو يمنعها عن أحد، ولو كان صلى الله عليه وسلم يملك شيئًا من ذلك لجعل عمه أبا طالب يؤمن، وقد قال الله تعالى له:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56).
الله أكبر، أين السيوطي ومن معه من هذه الآية؟ فمهما أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن والداه فهل ذلك ممكن بمجرد إرادته له؟ الجواب في الآية.
وهل أمر الإيمان والهداية ودخول الجنان بالقرابة؟ اللهم لا، ولو كان ذلك لآمن قرابته كلهم، بل لقد أُنزِل في بعض قرابته سورة خاصة هي سورة المسد في أبي لهب وهو عمه. ولهذا فلا محاباة ولا نسب في دين الله عز وجل بل هو الحق والإيمان والتقوى.
وذهب بعضهم إلى قول آخر وهو الوقف.
قال الشيخ تاج الدين الفكهاني في كتابه الفجر المنير: الله أعلم بحال أبويه صلى الله عليه وسلم.
نقول: هل يجوز التوقف أو الوقف في شيء أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه؟ وما معنى الإيمان به إذن؟ هل يجوز الوقف في وجود الجنة والنار، وفي العرش، والصراط، والمهدي، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وعذاب القبر، وغير ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ .
(1) مسلم (204).