الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال رحمه الله: التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة، هو ما ذكرنا أن القرآن دلَّ عليه، وهو أن الله أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن زيدًا يطلّق زينب، وأنه يزوّجها إيّاه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له:"أمسك عليك زوجك واتق الله"، فعاتبه الله على قوله:"أمسك عليك زوجك" بعد علمه أنها ستصير زوجته هو صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس أن يقولوا: لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.
والدليل على هذا أمران:
الأول: هو ما قدّمنا من أن الله - جل جلالة -، قال:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، وهذا الذي أبداه الله جلَّ وعلا، هو زواجه إياها في قوله:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ، ولم يبدِ جلَّ وعلا شيئًا ممّا زعموه أنه أحبّها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى، كما ترى.
الثاني: أن الله جلَّ وعلا صرّح بأنه هو الذي زوّجه إياها، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} ، فقوله تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} ، تعليل صريح لتزويجه إياها لما ذكرنا، وكون الله هو الذي زوّجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبّته لها التي كانت سببًا في طلاق زيد لها كما زعموا، ويوضحه قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} الآية؛ لأنه يدلّ على أن زيدًا قضى وطره منها، ولم تبقَ له بها حاجة، فطلّقها باختياره، والعلم عند الله تعالى (1).
الوجه العاشر: ذكر هذه الروايات الباطلة وبيان وجه البطلان سندًا ومتنًا
.
وخلاصة هذه الروايات المكذوبة هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب فجأة وهي في ثياب
(1) أضواء البيان (سورة الأحزاب: 37).
المنزل فأعجبته، ووقع في قلبه حبها، فتكلم بكلام يفهم منه ذلك، إذ سمعه زيد فبادر إلى طلاقها تحقيقًا لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن زيدًا شاوره في طلاقها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك، لكن في قلبه ضد هذا، وأنه كان راغبًا في طلاق زيد لها ليتزوجها، وفوق ذلك فقد أقر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فعل، بل عاتبه لِمَ يخفي هذا والله سيبديه.
ورغم شناعة ما جاء في هذه الروايات، وهذا الفهم للآية الكريمة التي تتحدث عن طلاق زيد لزينب وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بها، إلا أنه قد جاز على أئمة فضلاء، ففسروا به الآية الكريمة، وأثبتوا ذلك صراحة في كتبهم وتفاسيرهم (1).
وأحسن ما يعتذر به عن هؤلاء الأئمة وأتباعهم ممن ذهب يفسر الآية بهذا، أنهم عدّوا هذا منه صلى الله عليه وسلم من عوارض البشرية، كالغضب والنسيان، ولكنهم لم يستحضروا شناعة هذا التفسير للآية، ونسبة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدققوا في الروايات التي وصلتهم من جهة أسانيدها ومتونها كما فعل غيرهم، ونحن نسأل الله أن يثيبهم على اجتهادهم وأن يغفر لهم.
الرواية الأولى: عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له: زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة فيقول:"أين زيد؟ " فجاء منزله يطلبه، فلم يجده، وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فُضُلًا - أي وهي لابسة ثياب نومها -، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: ليس هو هاهنا يا رسول الله فادخل بأبي أنت وأمي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل، وإنما عجلت أن تلبس لما قيل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب فوثبت عجلي، فأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا: سبحان مصرّف القلوب، فجاء زيد إلى منزله، فأخبرته امرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزله، فقال زيد: ألا قلت له أن يدخل؟ قالت: قد
(1) ومن هؤلاء الأئمة: ابن جرير الطبري في كتابه جامع البيان (22/ 12)، عند تفسيره الآية ولم يذكر غيره.
ومنهم: الرازي في تفسيره (13/ 184)، حيث ذكر نحوًا من كلام ابن جرير ومنهم: ابن القيم في كتابه الجواب الكافي (ص 247)، حيث ذكره في معرض سوقه لحكايات في عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام.
ومنهم: الزمخشري في تفسيره (3/ 262).
عرضت ذلك عليه فأبى، قال: فسمعت شيئًا؟ قالت: سمعته يقول حين ولّى تكلم بكلام لا أفهمه، وسمعته يقول:"سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب"، فجاء زيد حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلّا دخلت بأبي وأمي يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها؟ فيقول رسول الله: "أمسك عليك زوجك"، فما استطاع زيد إليها سبيلًا بعد ذلك اليوم، فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمسك عليك زوجك"، فيقول: يا رسول الله أفارقها، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احبس عليك زوجك"، ففارقها زيد واعتزلها وحلّت - يعني انقضت عدتها - قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة، إلى أن أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم غشية، فسرّي عنه وهو يبتسم، وهو يقول:"من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء؟ وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} " الآية، القصة كلها.
قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله لها، زوجها الله من السماء، وقلت: هي تفخر علينا بهذا، قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتدّ فتحدّثها بذلك، فأعطتها أوضاحًا- حُليّ من الفضة عليها. (1)
(1) موضوع. أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 101) وابن جرير في تاريخه (3/ 161) من طريق محمد بن عمر قال: حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن محمد بن يحيى بن حبان به.
وإسناد هذه الرواية فيه علل ثلاث، واحدة منها تكفي لرد هذه الرواية:
العلة الأولى: أنها مرسلة، فمحمد بن يحيى بن حبان تابعي، يروي عن الصحابة، ويروي أيضًا عن التابعين، كعمر بن سليم والأعرج، وغيرهما، (ت 121 هـ) وعمره (74 سنة) وعلى هذا فمولده في نحو سنة (47)، فهو لم يدرك القصة قطعًا ولم يذكر من حدثه بها. التهذيب (9/ 447، 448).
العلة الثانية: عبد الله بن عامر الأسلمي، ضعيف بالاتفاق، بل قال فيه البخاري: ذاهب الحديث، وقال أبو حاتم: متروك. التهذيب (5/ 241)، وميزان الاعتدال (2/ 448). =
الرواية الثانية: قال ابن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش بنت عمته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يريده وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر؛ فانكشفت وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقع ذلك كرهت الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال:"ما لك؟ أرابك منها شيء؟ "قال: لا والله ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتق الله، فذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
…
}، تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها. (1)
الرواية الثالثة: عن أنس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته زينب، وكأنه دخله لا أدري من قول حماد أو في الحديث فجاء زيد يشكوها إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله، قال: فنزلت: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} إلى قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} يعني زينب (2).
= العلة الثالثة: محمد بن عمر، وهو الواقدي، إخباري كثير الرواية، لكنه متروك الحديث، ورماه جماعة من الأئمة بالكذب ووضع الحديث. ميزان الاعتدال (3/ 664).
(1)
موضوع. أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/ 13) قال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وذكره، وهذا إسناد ضعيف جدًّا وفيه علتان:
العلة الأولى: أنها معضلة، فابن زيد وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مات سنة ثنتين وثمانين ومائة وعده ابن حجر من الثامنة فليس بصحابي ولا تابعي، فقد سقط من الإسناد راويان أو أكثر.
العلة الثانية: أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا ضعيف باتفاق المحدثين، بل صرح بعضهم بأنه متروك الحديث، قال البخاري وأبو حاتم: ضعفه علي بن المديني جدًّا، وقال أبو حاتم: كان في الحديث واهيًا، قال بن حبان كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك وقال بن سعد: كان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا. وأقوال الأئمة في تضعيفه كثيرة، وهو رجل صالح في نفسه لكنه شغل بالعبادة والتقشف عن حفظ الحديث فضعف جدًّا: المجروجين لابن حبان (2/ 57)، والتهذيب (6/ 161)، والتقريب (3865).
(2)
منكر. أخرجه أحمد في مسنده (3/ 149 - 150)، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا ثابت عن أنس وذكره. =
الرواية الرابعة: عن قتادة: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام: {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} قال: وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها، قال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ منها قوله: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، ولو كان نبي الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتمها {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، قال خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس. (1)
= وهذا إسناد فيه مؤمل بن إسماعيل قال البخاري: منكر الحديث. لسان الميزان (4987)، وقال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة كثير الخطأ، وقال ابن حبان في الثقات: ربما أخطأ، وقال يعقوب بن سفيان: مؤمل أبو عبد الرحمن شيخ جليل سُني سمعت سليمان بن حرب يحسن الثناء (عليه) وكان مشيختنا يوصون به إلا أن حديثه لا يشبه حديث أصحابه، وقد يجب على أهل العلم أن يقفوا عن حديثه؛ فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوخه، وهذا أشدّ فلو كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنا نجعل له عذرًا. تهذيب التهذيب (10/ 339). فهكذا حال مؤمل لو انفرد فكيف وقد خالفه جماعة من الثقات عن حماد بن زيد فرووا الحديث من غير ذكر لهذا الزيادة التي فيها ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت زيد ومنهم:
1 -
محمد بن أبي بكر المقدمي: وهو ثقة كما في التقريب (5761) وحديثه عند البخاري (6984)، ولفظه: عن ثابت عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك". قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات، وعن ثابت:"وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس". نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة.
2 -
أحمد بن عبدة الضبي عند الترمذي (3212)، وهو ثقة التقريب ت (64).
3 -
محمد بن سليمان لوين كما عند النسائي في الكبرى (11407)، ثقة كما في التقريب ت (5925).
(1)
موقوف على قتادة. أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/ 13)، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة به.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة هذه القصة مختصرة، قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد عليّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له:"اتق الله وأمسك عليك زوجك"، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ويخشى مقالة الناس. فتح الباري (8/ 524).
وقتادة: هو بن دعامة السدوسي أحد الأئمة الحفاظ، وهو في طبقة التابعين مشهور بالتفسير، فما فسره من فهمه للآيات فينظر فيه، وما ذكره رواية؛ فإن العلماء أخذوا عليه كثرة التدليس، فاشترطوا لصحة حديثه أن يصرح بالسماع. وانظر التهذيب (8/ 351 - 356). وجامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي (صـ 101). =