الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويلٍ، وبصيرة. وعلى ما تقدم قبل مثله فلم ينكره الله تعالى عليهم، لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدرٍ وكثرة أسراها. والله أعلم. إظهار نعمته، وتأكيد منته بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم، لا على وجه عتابٍ وإنكارٍ وتذنيبٍ، هذا معنى كلامه. (1)
الوجه الثاني:
كلمة {تُرِيدُونَ} موجهة لجمع الأصحاب الذين أرادوا المال وليس للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب تفسير البحر المحيط: وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفًا، والمراد به في التنكير، والتعريف الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معينًا، وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف، أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ، فحذف اختصارًا ولذلك جاء الجمع في قوله:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} ولم يجئ التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد عرض الدنيا قط، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب.
ثم قال: وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونه على الجهاد، وإيثارًا للقرابة، ورجاء الإسلام، وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار، وأرفع لمنار الإسلام، وكان ذلك إذ المسلمون قليل، فلما اتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4). (2)
وقال أيضًا: والذي أقوله: أنهم كانوا مأمورين أوّلًا بقتل الكفار في غير ما آية كقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (النساء: 89){وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة: 191) فلما كانت وقعة بدر، وأسروا جماعة من المشركين، اختلفوا في أخذ الفداء منهم، وفي قتلهم، فعوتب من رأى الفداء؛ إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل، حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر، ومالوا إلى الفداء، وحرصوا على تحصيل المال، ثم بعد هذه المعاتبة أمر الرسول بقتل بعض، والمنّ بالإطلاق في بعض، والفداء في بعض، فكان ذلك نسخًا لتحتّم القتل، ثم
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2/ 175: 173.
(2)
تفسير البحر المحيط 4/ 514.
قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ} في تأييدكم ونصركم وقهركم أعداءكم، حتى استوليتم عليهم قتلًا وأسرًا ونهبًا، على قلّة عددكم وعددكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم منهم، لكونهم كانوا أكثر عددًا منكم وعددًا، ولكنه سهل تعالى عليكم، ولم يمسّكم منهم عذاب لا بقتل ولا أسر ولا نهب، وذلك بالحكم السابق في قضائه، أنه يسلّطكم عليهم ولا يسلّطهم عليكم، فليس المعنى لمسكم من الله، وإنما المعنى لمسكم من أعدائكم، كما قال:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وقال: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} ثم قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} أي مما غنمتم، ومنه ما حصل بالفداء الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:"لا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق" وليس هذا الأمر مُنْشِئًا لإباحة الغنائم، إذ قد سبق تحليلها قبل يوم بدر؛ ولكنه أمر يفيد التوكيد واندراج مال الفداء في عموم ما غنمتم؛ إذ كان قد وقع العتاب في الميل للفداء، ثم أقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم وانتصب (حلالًا) على الحال من ما إن كانت موصولة، أو من ضميره المحذوف، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلًا حلالًا، وجوّزوا في (ما) إن تكون مصدرية وروي أنهم أمسكوا عن الغنائم، ولم يمدّوا أيديهم إليها فنزلت، وجعل الزمخشري قوله {فَكُلُوا} متسبّبًا عن جملة محذوفة، هي سبب، وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا، وقال الزجاج الفاء للجزاء، والمعنى قد أحللت لكم الفداء فكلوا، وأمر تعالى بتقواه؛ لأن التقوى حاملة على امتثال أمر الله، وعدم الإقدام على ما لم يتقدّم فيه، إذن ففيه تحريض على التقوى من مال إلى الفداء، ثم جاءت الصفتان مشعرتين بغفران الله ورحمته عن الذين مالوا إلى الفداء قبل الإذن. (1)
وقال الزمخشري: معناه إذا اتقيتموه بعدما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم. (2)
(1) نقلًا من البحر المحيط 4/ 515.
(2)
الكشاف 2/ 238.
وقال ابن عطية: وجاء قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} اعتراضًا فصيحًا في أثناء القول؛ لأن قوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو متصل بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} ، وقيل: غفور لما أتيتم، رحيم بإحلال ما غنمتم (1)(2).
قال الإمام الرازي: تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليه السلام بهذه الآية من وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} صريحٌ في أن هذا المعنى منهي عنه، وممنوع من قِبَلِ الله تعالى. ثم إن هذا المعنى قد حصل، ويدل عليه وجهان: الأول: قوله تعالى بعد هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} (الأنفال: 70) الثاني: أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه صلى الله عليه وسلم ما قتل أولئك الكفار، بل أسرهم، فكان الذنب لازمًا من هذا الوجه.
الثاني: أنه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم وجميع قومه يوم بدرٍ بقتل الكفار، وهو قولُهُ:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12) وظاهر الأمر للوجوب، فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء، وكان أخذ الفداء معصية، ويدل عليه وجهان: الأول قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا هاهنا هو أخذ الفداء. والثاني: قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} وأجمعوا على أن المراد بقوله: {أَخَذْتُمْ} ذلك الفداء.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بكيا، وصرح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء، وذلك يدل على أنه ذنبٌ.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر"
(1) المحرر الوجيز لابن عطية 2/ 554.
(2)
تفسير البحر المحيط 4/ 515 - 516.
وذلك يدل على الذنب، فهذه جملة وجوهٍ تمسك القوم بهذه الآية.
والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولًا: أن قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} يدل على أنه كان الأسر مشروعًا، ولكن بشرط سبق الإثخان في الأرض، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقًا عظيمًا، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالةً دلالةً بيِّنةً على أن ذلك الأسر كان جائزًا بحكم هذه الآية، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنبًا ومعصيةً؟ ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4).
فإن قالوا: فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزًا والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب العقاب عليه، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب؟
فنقول: الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطًا بضابطٍ معلومٍ معينٍ، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضًا إلى الاجتهاد، فلعله غلب على ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطًا واقعًا في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنبًا ولا معصيةً.
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانيا أن نقول:
إن ظاهر قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان مأمورًا أن يباشر قتل الكفار بنفسه، وإذا كان هذا الخطاب مختصًا بالصحابة، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر، كان الذنب صادرًا
منهم لا من الرسول صلى الله عليه وسلم. ونقل أن الصحابة لما هَزَموا الكفارَ وقتلوا منهم جمعًا عظيمًا، والكفارُ فروا ذهب الصحابةُ خلفَهم، وتباعدوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأسروا أولئك الأقوام، ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته، وهو صلى الله عليه وسلم ما أسر وما أمر بالأسر، فزال هذا السؤال.
فإن قالوا: هب أن الأمر كذلك، لكنهم لما حملوا الأساري إلى حضرته فلِمَ لَمْ يأمر بقتلهم امتثالًا لقوله تعالى:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} .
قلنا: إن قوله: {فَاضْرِبُوا} تكليفٌ مختصٌ بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب، فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناوَلًا له. والدليل القاطع عليه أنه صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أنه بماذا يعاملهم، ولو كان ذلك النصُّ متناولًا لتلك الحالة، لكان مع قيام النص القاطع تاركًا لحكمه، وطالبًا ذلك الحكم من مشاورة الصحابة، وذلك محُالٌ، وأيضًا فقوله:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} أمرٌ، والأمرُ لا يفيد إلا المرةَ الواحدةَ، وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجبًا حال المحاربة فوجب أن يبقى عديمَ الدلالة على ما وراء وقت المحاربة، وهذا الجواب شافٍ.
والجواب عما ذكروه ثالثًا وهو قولهم: إنه صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء، وأخذ الفداء محرمٌ.
فنقول: لا نسلم أن أخذ الفداء محرمٌ، وأما قوله:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فنقول: هذا لا يدل على قولكم، وبيانه من وجهين:
الأول: أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء، وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرمٌ مطلقًا.
الثاني: أن أبا بكر رضي الله عنه قال: الأولى أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد، وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوىِ به على الدين، وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني. وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان
عن تمسكهم بقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
والجواب عما ذكروه رابعًا:
أن بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل، واشتغل بالأسر استوجب العذاب، فبكى الرسول صلى الله عليه وسلم خوفًا من نزول العذاب عليهم، ويحتمل أيضًا ما ذكرناه أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله:{حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى.
والجواب عما ذكروه خامسًا: أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل، وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة. والله أعلم. (1)
قال الإمام الرازي أيضًا:
تمسكوا بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيتان.
والاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} وذلك يقتضي أن يكون استبقاء الأسرى محرمًا.
الثاني: قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وذلك مذكورٌ في معرض الذم.
الثالث: قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} .
الجواب: الذي يدل على براءة منصب الأنبياء في هذه الواقعة عن كل ما لا ينبغي:
أولًا: أنه إما أن يكون قد أوحى إليه في جواز الأسر وخَطَرَ إليه شيء، أو ما أوحي إليه شيء؛ فإن كان قد أوحى إليه شيء لم يجز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه فيه؛ لأنه مع قيام النص وظهور الوحي لا يجوز الاشتغال بالاستشارة، وإن لم يوح إليه شيء البتة لم يتوجه
(1) تفسير الرازي 15/ 200: 198.
عليه ذنب البتة.
ثانيًا: أن ذلك الحكم لو كان خطًا لأمر الله تعالى بنقضه، فكان يؤمر بقتل الأسرى ويرد ما أخذ منهم، قلنا: لما لم يكن كذلك بل قال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (الأنفال: 69) علمنا أنه لم يوجد خطأ في ذلك الحكم البتة.
ثالثا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتغل بالاستغفار واللوم، وذلك يدل على عدم الذنب على ما تقدم، وإذ قد بيَّنا ذلك فنقول: كما يأتي العتاب على ترك الواجب فقد يأتي أيضا على ترك الأولى، والأولى في ذلك الوقت الإثخان وترك الفداء قطعًا للأطماع وحسمًا للنزاع، ولولا أن ذلك من باب الأولى لما فوَّض النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك إلى الأصحاب، وهذا هو العذر عن قوله:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} .
فأما قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فهو خطاب جمع فيصرف ذلك إلى القوم الذين رغبوا في المال.
وهذا يدل على أن المعاتَبَ في شأن الأساري هو غير النبي صلى الله عليه وسلم بل يجب أن يكون سواه، والقصة معروفة؛ لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أصحابه أن يُثْخِنُوا في قتل أعدائهم بقوله تعالى:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} وبلَّغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك إلى أصحابه فسَهَوا عن ذلك وأسروا يوم بدرٍ جماعةً من المشركين طمعًا في الفداء فأنكر الله تعالى ذلك عليهم، وبيَّن أن الذي أمر به سواه.
وأما قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ} فمعناه لولا ما سبق من تحليل الغنائم لعذبكم بسبب أخذكم هذا الفداء، وهذا غاية التقريع في تخطئتهم في أخذ الفداء من جهة التدبير.
فإن قلتَ: فإن كان ذلك محلَّلا لهم؛ فما هذا التقريع البالغ؟
قلتُ: لأن ذلك من باب الحروب، وما كان من ذلك الباب فقد يقع الخطأ فيه من جهة التدبير ويُقَرِّعُ ذلك المخطئ، وإن كان غير مذنب. (1)
والخلاصة في هذه الآية من كل ما سبق:
1 -
كان الأسر في غزوة بدرٍ جائزًا، ولكن بعد الإثخان في الأرض والمبالغة في قتل المشركين.
2 -
أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم باستشارة أصحابه رضي الله عنهم في شأن الأسرى.
3 -
كلمة {تُرِيدُونَ} موجهة لجمع الأصحاب الذين أرادوا الدنيا وليس للنبي صلى الله عليه وسلم.
4 -
الميل إلى الفداء كان غالبًا لأجل التَقَوِّى على الجهاد.
5 -
كان الخبر في غزوة بدر أخذ الفداء من الأسرى -مفاداتهم- بدليل إسلام كثير منهم بعد ذلك، ولكن الله أراد أن يعاتب من أراد الدنيا بأخذ الفداء.
6 -
لأهل بدر منزلة عظيمة عند رب العالمين ليست لأي أحد غيرهم.
* * *
(1) عصمة الأنبياء ص 134: 132.