الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحد يوهم أن الأمرين متضادان، إذ أبيح فعل مسمى باسم، وحظر فعل تسمى بذلك الاسم سواء فمن كان هذا مبلغه من العلم لم يحل له تعاطي الفقه، ولا الفتيا، ووجب عليه التعلم، أو السكت، إلى أن يدرك من العلم ما يجوز معه الفتيا، وتعاطي العلم، ومن فهم هذه الصناعة علم أن ما أبيح غير ما حظر، وإن كان اسم الواحد قد يقع على المباح وعلى المحظور جميعًا، فمن هذا الجنس الذي ذكرت أن الله عز وجل دل في كتابه أن مباشرة النساء في نهار الصوم غير جائز كقوله تبارك وتعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187)، فأباح الله عز وجل مباشرة النساء والأكل والشرب بالليل، ثم أمرنا بإتمام الصيام إلى الليل، على أن المباشرة المباحة بالليل المقرونة إلى الأكل والشرب هي الجماع المفطر للصائم.
وأباح الله عز وجل بفعل النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم المباشرة التي هي دون الجماع في الصيام، إذ كان يباشر وهو صائم، والمباشرة التي ذكر الله في كتابه أنها تفطر الصائم هي غير المباشرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يباشرها في صيامه، والمباشرة اسم واحد واقع على فعلين:
إحداهما مباحة في نهار الصوم، والأخرى: محظورة في نهار الصوم، مفطرة للصائم (1).
فهذا الكلام فيه بيان الفرق بين الاصطلاحين وأنهما على معنيين مختلفين وأنه لابد من فهم الكلام المطروح في إطار ما ورد فيه وبالكيفية التي جاء بها، ولا يعم اللفظ إلا إذا كان يحمل معنًا واحدًا لا يحتمل غيره".
الوجه السادس: إيراد كلام أهل العلم على الحديث، وبيان معناه
.
بوب البخاري رحمه الله في صحيحه "باب المباشرة للصائم"
قال ابن حجر: "أي بيان حكمها وأصل المباشرة التقاء البشرتين ويستعمل في الجماع سواء أولج أم لم يولج وليس الجماع مرادًا بهذه الترجمة"(2).
(1) صحيح ابن خزيمة 3/ 244: 243.
(2)
فتح الباري 4/ 176 - 177.
وبوب الترمذي رحمه الله في سننه "باب ما جاء في مباشرة الصائم"(1).
قال المباركفوري: "المباشرة أعم من القبلة، قيل هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج، وقيل هي القبلة واللمس باليد، قاله القاري"(2).
قال النووي: "معنى المباشرة هنا اللمس باليد، وهو من التقاء البشرتين"(3).
قال الصنعاني: قال العلماء: معنى الحديث أنه ينبغي لكم الاحتراز من القُبْلة، ولا تتوهموا أنكم مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه ويأمن من وقوع القبلة أن يتولد عنها إنزال، أو شهوة، أو هيجان نفس، أو نحو ذلك وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم كف النفس على ذلك، وأخرج النسائي من طريق الأسود "قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه" وظاهر هذا: أنها اعتقدت أن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: وهو اجتهاد منها.، وقيل: الظاهر أنها ترى كراهة القبلة لغيره صلى الله عليه وسلم كراهة تنزيه لا تحريم كما يدل له قولها: أملككم لإربه. وفي كتاب الصيام لأبي يوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة: "سئلت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها.
وظاهر حديث الباب جواز القبلة، والمباشرة للصائم لدليل التأسي به صلى الله عليه وسلم، ولأنها ذكرت عائشة الحديث جوابًا عمَّن سأل عن القبلة، وهو صائم، وجوابها قاض بالإباحة مستدلة بما كان يفعله صلى الله عليه وسلم.
وفي المسألة أقوال:
الأول: للمالكية أنه مكروه مطلقًا.
الثاني: أنه محرّم مستدلين بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فإنه منع المباشرة في النهار وأجيب بأن المراد بها في الآية الجماع وقد بين ذلك فعله صلى الله عليه وسلم كما أفاده حديث الباب وقال
(1) سنن الترمذي 3/ 106.
(2)
عمدة القاري 18/ 190، وانظر أيضًا تحفة الأحوذي 3/ 351.
(3)
شرح النووي 7/ 217.
قوم: إنها تحرم القبلة وقالوا: إن من قبل بطل صومه.
الثالث: أنه مباح، وبالغ بعض الظاهرية فقال: إنه مستحب.
الرابع: التفصيل. فقال: يكره للشاب، ويباح للشيخ، ويروى عن ابن عباس، ودليله ما أخرجه أبو داود: أنه أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب.
الخامس: إن مالك نفسه جاز له، وإلا فلا، وهو مروي عن الشافعي، واستدل له بحديث عمر بن أبي سلمة: لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أمه أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: إني أخشاكم لله. فدل على أنه لا فرق بين الشاب والشيخ وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم لعمر لا سيما وعمر كان في ابتداء تكليفه.
وقد ظهر مما عرفت أن الإباحة أقوى الأقوال.
واختلفوا أيضًا فيما إذا قبل أو نظر أو باشر فأنزل أو أمذى: فعن الشافعي وغيره: أنه يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء.
وقال مالك: يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط. وثمة خلافات أخر الأظهر أنه لا قضاء ولا كفارة إلا على من جامع وإلحاق غير الجامع به بعيد.
تنبيه: قوله: (وهو صائم) لا يدل أنه قبلها، وهي صائمة، وقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة: كان يقبل بعض نسائه في الفريضة، والتطوع. ثم ساق بإسناده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمس وجهها، وهي صائمة، وقال: ليس بين الخبرين تضادّ لأنه كان يملك إربه، ونبه بفعله ذلك على جواز هذا الفعل لن هو بمثابة حاله، وترك استعماله إذا كانت المرأة صائمة علمًا منه بماركب في النساء من الضعف عند الأشياء التي ترد عليهن. (1)
وقال ابن تيمية: تحت باب الرخصة في القبلة للصائم إلا لمن يخاف على نفسه ثم ساق حديث أم سلمة، وعائشة، وعمر بن أبي سلمة في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم ثم قال: وفيه
(1) سبل السلام (1/ 84).
أن أفعاله حجة.
قال الشوكاني: قوله: كان يقبلها فيه دليل على أنه يجوز التقبيل للصائم ولا يفسد به الصوم. (1)
قال ابن عبد البر: وفيه من الفقه أن القبلة للصائم جائزة في رمضان وغيره شابًا كان أو شيخًا على عموم الحديث وظاهره لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل للمرأة هل زوجك شيخ أو شاب، ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه صلى الله عليه وسلم لأنه المنبئ عن الله عز وجل مراده من عباده وأظن أن الذي فرق بين الشيخ في القبلة للصائم والشاب ذهب إلى قول عائشة: وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثها عنه أنه كان يقبلها، وهو صائم صلى الله عليه وسلم يعني أملك لنفسه وشهوته، والدليل أن الشيخ والشاب عندها في ذلك سواء، وأن قولها إنما خرج على الإشفاق والاحتياط في ذلك ما ذكره.
ثم قال رحمه الله: وقد أجمع العلماء على أن من كره القبلة لم يكرهها لنفسها وإنما كرهها خشية ما تحمل إليه من الإنزال، وأقل ذلك المذي لم يختلفوا في أن من قبل، وسلم من قليل ذلك، وكثيره فلا شيء عليه، وممن قال بإباحة القبلة للصائم عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة وبه قال عطاء، والشعبي، والحسن، وهو قول أحمد، وإسحاق، وداود.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالقبلة للصائم إذا كان يأمن على نفسه.
قالوا: وإن قبل وأمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، وهو قول الثوري، والشافعي وكلهم يقول من قبل فأمنى فليس عليه غير القضاء.
وقال ابن علية: لا تفسد القبلة الصوم إلا أن ينزل الماء الدافق، ولا أعلم أحدا رخص في القبلة للصائم إلا وهو يشترط السلامة مما يتولد منها، وأن من يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها (2).
(1) نيل الأوطار 4/ 288.
(2)
الاستذكار لابن عبد البر 3/ 295 - 297.