الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16 - شبهة: حُبِّبَ إليَّ من دنياكم
نص الشبهة:
في الحديث: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة".
يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من أحب الأشياء إليه النساء، وهذا فيه دلالة على الشهوانية.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: المعنى الإجمالي للحديث وتوضيح المراد بالنساء فيه
.
الوجه الثاني: القول بأنه ابتلاء من الله.
الوجه الثالث: القول بأنه منفعة للمسلمين.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: المعنى الإجمالي للحديث، وتوضيح المراد بالنساء فيه.
قال الماوردي: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَحْبِيبِ النِّسَاءِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الابْتِلَاءِ وَالتَكلِيفِ، حَتَّى لَا يَلْهُوَ بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ عَمَّا كُلِّفَ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَعْجَزَ عَنْ تحَمُّلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَكْثَرَ لِمَشَاقِّه وَأَعْظَمَ لِأَجْرِهِ.
الثَّانِي: لِيَكُونَ خَلْوَاتُهُ مَعَهُنَّ يُشَاهِدُهَا مِنْ نِسَائِهِ، فَيَزُولُ عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ الْمشْرِكُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَاحِر أَوْ شَاعِر، فَيَكُونُ تَحْبِيبُهُنَّ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ بِهِ.
وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الابْتِلَاءِ لَهُ، وَعَلَى أَيِّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ فَهُوَ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَير نَقْصًا، وَهَذَا مِمَّا هُوَ بِهِ مَخَصُوصٌ أَيْضًا. (1)
وقال ابن الحاج: فَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: حُبَّبَ، وَلَمْ يَقُلْ: أَحْبَبْت، وَقَالَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فَأَضَافَهَا إلَيْهِمْ دُونَهُ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ حُبُّهُ خَاصًّا بِمَوْلَاهُ عز وجل يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْني فِي الصَّلَاةِ"، وَمَا ذَاكَ إلَّا لمِا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ المُعَانِي الْعَلِيةِ الشَّرِيفَةِ" فَكَانَ صلى الله عليه وسلم بَشَرِيَّ الظَّاهِرِ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ إلَّا تَأْنيسًا لِأُمَّتِهِ، وَتَشْرِيعًا لَهَا، لَا أَنَّهُ مُحتاجٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كما تَقَدَّمَ، وَللْجَهْلِ بِهَذه الْأَوْصَافِ الجلِيلَةِ، وَالخِصَال
(1) الحاوي الكبير للماوردي 11/ 25، حاشية السيوطي على النسائي 7/ 61، حاشية السندي على النسائي 7/ 61.
الْحَمِيدَةِ قَالَ الْجَاهِلُ المسْكِينُ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} أَلا ترى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فَقَالَ: {لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ، وَلَمْ يَقُلْ إنِّي مَلَكٌ، فَلَمْ يَنْفِ الْمَلَكِيَّةَ عَنْهُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ أَعْنِي فِي مَعَانيهِ صلى الله عليه وسلم لَا فِي ذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، إذْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَلْحَقُ بَشَريَّتهُ مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ (1).
وقال الفخر الرازي: ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة" فرجح الصلاة على النكاح. (2)
انظر في كلام الرازي قال: "فرجح الصلاة على النكاح". وهذا يؤكد معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بكلمة النساء في الحديث زوجاته، أي: ما يحل له ليس غيرهن.
وقال القاضي عياض: حُبِّبَ إلي من دنياكم فدل على أن حبه لما ذكر من النساء والطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره واستعماله لذلك ليس لدنياه، بل لآخرته للفوائد التي ذكرناها في التزويج وللقاء الملائكة في الطيب؛ ولأنه أيضًا مما يحض على الجماع ويعين عليه ويحرك أسبابه.
وكان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره وقمع شهوته، وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدته جبروت مولاه ومناجاته، ولذلك ميَّز بين الحبين وفصل بين الحالين فقال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة". (3)
وقال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث: فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة. (4)
(1) المدخل لابن الحاج 2/ 189.
(2)
تفسير الفخر الرازي 23/ 213.
(3)
الشفا بتعريف حقوق المصطفي للقاضي عياض (ص- 106).
(4)
إغاثة اللهفان (ص-512).
وهذا أيضًا مزيد تأكيد وبيان على أن حب النساء في الحديث يعني الأهل منهن.
قال السيوطي: لما كان المقصود من سياق الحديث بيان ما أصابه النبي صلى الله عليه وسلم من متاع الدنيا بدأ به كما قال في الحديث الآخر: "ما أصبنا من دنياكم هذه إلا النساء" ولما كان الذي حبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء. بدليل قوله في الحديث الآخر: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" ناسب أن يضم إليه بيان أفضل الأمور الدينية؛ وذلك الصلاة؛ فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان، فكان الحديث على أسلوب البلاغة من جمعه بين أفضل أمور الدنيا وأفضل أمور الدين، وفي ذلك ضم الشيء إلى نظيره وعبر في أمر الدين بعبارة أبلغ مما عبر به في أمر الدنيا حيث؛ اقتصر في أمر الدنيا على مجرد التحبب وقال في أمر الدين:"جُعلت قرة عيني"؛ فإن في قرة العين من التعظيم في المحبة ما لا يخفى. (1)
وقال علي بن برهان الدين الحلبي: حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا؛ فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس؛ لأنهم يقصدونهما للاستلذاذ وحظوظ النفس وهو صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك؛ وإنما حُبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبًا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية. (2)
قال محمد بن يوسف الصالحي: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقًا إلى زخرف الدنيا ولذاتها، ولقد عرض عليه أن تكون له جبال مكة ذهبًا تسير معه حيث سار فأباها، واختار الافتقار إلى الله تعالى.
معلوم أن الذهب يتحصل به جميع ما يقصده من أعراض الدنيا وزخارفها، وتقلله من الدنيا أمر شائع ذائع صحت به الأحاديث.
وتقدم بعض ذلك في باب زهده صلى الله عليه وسلم إذا تقرر ذلك، فحبه للنساء والطيب ليس من زهرة الدنيا والافتتان، بل هو من أعمال الاخرة المحصلة لمعالي الدرجات، وبيان ذلك أنه حبب إليه كثرة النساء، ليطلعهن على ما لديه من بواطن الشريعة وظواهرها، فينقلنه ويعلنه للناس، أو يكون التشريع بسببهن، وخصوصًا مما يستحيي الرجال من ذكره
(1) الحاوي للفتاوى للسيوطي 1/ 355.
(2)
السيرة الحلبية 2/ 181.