الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي يقطع به أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منسوبًا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدًا من أمته، ومخاطبًا بكل شريعته، بل شريعته مستقلة بنفسها، مفتتحة من عند الله الحاكم عز وجل وأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر، ولا حضر حلف المطر، ولا حلف المطيبين، بل نزهه الله وصانه عن ذلك.
فإن قيل: فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثًا بسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه، وعهده باستلام الأصنام فلم يشهدهم بعد؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدًّا وقال: هذا موضوع أو شبيه بالموضوع.
وقال الدارقطني: إن عثمان وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده، فلا يلتفت إليه. (1)
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (البقرة: 135)، وقال:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (النحل: 12) وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} (الشورى: 13)، وهذا يقتضي أن يكون متعبدًا بشرع.
فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين.
الوجه الثالث: في معنى هذه الآية
إذا تقرر هذا فما هو معنى قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ؟
1 -
قال جماعة: معنى الإيمان في هذه الآية شرائع الإيمان ومعالمه.
2 -
وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كنت غافلًا عن هذه التفاصيل.
ويجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشرع.
3 -
وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، ونحوه عن أبي العالية.
(1) سيأتي تفصيل هذا الحديث، وهو منكر بهذه اللفظة.
4 -
وقال أبو بكر القاضي: ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام.
قال: وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانًا. وهذه الأقوال الأربعة متقاربة.
5 -
وقال ابن خزيمة: عنى بالإيمان الصلاة، لقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامًا والمراد الخصوص.
6 -
وقال الحسين بن الفضل: أي ما كنت تدري ما الكتاب ولا أهل الإيمان.
وهو من باب حذف المضاف، أي من الذي يؤمن؟ أبو طالب أو العباس أو غيرهما.
7 -
وقيل: ما كنت تدري شيئًا إذ كنت في المهد وقبل البلوغ.
وحكي الماوردي نحوه عن علي بن عيسى قال: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الإيمان لولا البلوغ.
8 -
وقيل: ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك، وهو محتمل.
9 -
وقيل: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى:{كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} (العنكبوت: 48) روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما. (1)
وذلك أدخل في الإعجاز، وأدلّ على صحة نبوّته. (2)
10 -
أنه نفى دراية الإيمان ولم ينف الإيمان.
قال ابن عاشور: ومعنى عدم دراية الكتاب: عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه، ومعنى انتفاء دراية الإيمان: عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين، وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى {وَمَا كَانَ
(1) تفسير القرطبي 16/ 49، وانظر الشفاء للقاضي عياض (2/ 109).
(2)
فتح القدير للشوكاني 4/ 776.