الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني: الرد على من زعم أن الله عز وجل أحيا للنبي أبويه فأسلما
.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟
فأجاب: لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر - يعنى: الخطيب في كتابه (السابق واللاحق) - وذكره أبو القاسم السهيلي في (شرح السيرة) بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبي في (التذكرة) وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح، ولا في السنن، ولا في المسانيد، ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفي على متدين؛ فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله؛ فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة من وجهين: من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب.
والخطيب البغدادي في كتاب (السابق واللاحق) مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد، سواء كان الذي يروونه صدقًا أو كذبًا، وابن شاهين يروي الغث والسمين، والسهيلى إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل.
وأما الأدلة على ذلك فهي من الكتاب، والسنة الصحيحة، والإجماع.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (النساء: 17 - 18). فبين الله تعالى أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 85).
فأخبر سبحانه أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس فكيف بعد الموت؟
ومن السنة:
في صحيح مسلم أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ، الله أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ:"فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّي دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ". (1)
وفي صحيح مسلم أيضًا أنه قال: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي". (2)
وفي الحديث الذي في المسند وغيره قال: "إن أمي مع أمك في النار". (3)
فإن قيل: هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع، ولهذا ذكر ذلك من ذكر، وبهذا اعتذر صاحب التذكرة، فهذا باطل من وجوه:
الأول: أن الخبر عما كان ويكون، لا يدخله نسخ، كقوله سبحانه في أبي لهب:{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} (المسد: 3)، وكقوله في الوليد:{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (المدثر: 17)، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ" و"إنَّ أُمِّي وَأُمَّكَ فِي النَّار". وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم الله إيمانهما لم ينهه عن ذلك؛ فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنًا، فإن الله يغفر له فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه؛ لأنها كانت بطريقه بالحجون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك، ولم يزره، إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه، فكيف يقال:(أحيي له)؟ !
(1) مسلم (203).
(2)
مسلم (976).
(3)
إسناده ضعيف. أخرجه أحمد في مسنده (16234) قال: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن يعلي بن عطاء، عن وكيع بن عُدُس، عن أبي رزين عمِّه قال: قلت: يا رسول الله، أين أمي؟ قال: أمك في النار قال: قلت: فأين من مضى من أهلك؟ قال: أما ترضى أن تكون أمك مع أمي؟ وفي إسناده وكيع بن عُدُس، قيل: حدس مجهول الحال.
الثالث: أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع، كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه: حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم، من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت.
ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ:"نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ". (1)
إذن فذلك إيمان أبي طالب باطل نحالف لما في الصحيح وغيره؛ فإنه كان آخر شيء قاله هو: على ملة عبد المطلب، وأن العباس لم يشهد موته، مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أولى بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة خلفًا عن سلف، أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة، والعباس، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عنهم كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب.
الرابع: أن الله تعالى قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} (الممتحنة: 4)، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (التوبة: 114). فأمر بالتأسي بإبراهيم عليه السلام والذين معه إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. والله أعلم. (2)
قال الشيخ عبد المحسن البدر: وعلى هذا فالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كون أبويه ماتا مشركين، وأنهما في النار، ولم يثبت شيء يدل على خلاف ذلك، وما ذكره مَنْ قال بإحيائهما له صلى الله عليه وسلم وإسلامهما ليس بصحيح،
(1) البخاري (3670)، مسلم (209).
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية 4/ 327: 324.