الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الأول:
قال الخطابي: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل مما يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك، وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه؛ لأن الشرع لم يكن نزل بعد؛ بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، إلا بعد المبحث بمدة طويلة.
الوجه الثاني:
أن هذه السفرة كانت لقريش قدموها للنبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها، فقدمها النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن عمرو فأبى أن يأكل منها، وقال مخاطبًا لقريش الذين قدموها أولًا: إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم، وضعف هذا الوجه ابن حجر رحمه الله. (1)
الوجه الثالث:
وهو أصحها أن هذه الرواية لا تصريح فيها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما ذبح على النصب، وإنما فيها إنكار زيد الأكل مما ذبح على النصب، فلعله ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قومه يأكل ما ذبح على النصب، فقال ما قال ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأكل ذلك هو الآخر.
وقال الألباني: توهم زيد أن اللحم المقدم إليه من جنس ما حرم الله، ومن المقطوع به، أن بيت محمد صلى الله عليه وسلم لا يطعم ذبائح الأصنام، ولكن أراد الاستيثاق لنفسه، والإعلان عن مذهبه، وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك وسر به. (2)
رواية ثانية لهذا الحديث: عن سعيد بن زيد بن عمرو: قَالَ: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ هوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَرَّ بِهِما زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَدَعَوَاهُ إِلَى سُفْرَةٍ لَهُمَا فَقَالَ: "يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ"، قَالَ فَمَا رُئِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. (3)
وهذه الرواية فيها زيادة موهمة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب وهذه الزيادة هي قوله:"فما رُؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم أكل مما ذبح على النصب". والجواب على ذلك أنها زيادة منكرة كما في الحاشية.
(1) فتح الباري 7/ 143.
(2)
هامش فقه السيرة (87).
(3)
منكر. أخرجه أحمد 1/ 189، والطبراني في الكبير (350)، والبزار (1267)، وهذا إسناد ضعيف، وعلته عبد الرحمن المسعودي اختلط قبل موته، والراوي عنه يزيد بن هارون وهو ممن روى عنه بعد الاختلاط. التقريب (3919) وانظر نهاية الاغتباط (209)، وهامش فقه السيرة (87).
وعلى فرض صحتها:
1 -
قال السُّهَيْليّ رحمه الله: فَإِنْ قِيلَ فَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوْلَى مِنْ زَيْد بِهَذ الْفَضِيلَة.
فَالجوَاب: أَنهُ لَيْسَ فِي الحدِيث أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهَا، وَعَلَى تَقْدِير أَنْ يَكُون أَكَلَ فَزَيْد إِنَّمَا كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ بِرَأْيٍ يَرَاهُ لَا بِشَرْعٍ بَلَغَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عِنْد أَهْل الجاهِلِيَّة بَقَايَا مِنْ دَيْن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ فِي شَرْع إِبْرَاهِيم تَحْرِيم الميْتَة لَا تَحْرِيم مَا لَمْ يُذْكَر اِسْم الله عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيم ذَلِكَ فِي الْإِسْلَام، وَالْأَصَحّ أَنَّ الْأَشْيَاء قَبْل الشَّرْع لَا تُوصَف بِحِلٍّ وَلَا بِحُرْمَةٍ، مَعَ أَنَّ الذَّبَائِح لَهَا أَصْل فِي تَحْلِيل الشَّرْع، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى نُزُول الْقُرْآن.
2 -
قال ابن حجر: وَقَوْله إِنَّ زَيْدًا فَعَلَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، أَوْلَى مِنْ قَوْل الدَّاوُدِيّ، إِنَّهُ تَلَقَّاهُ عَنْ أَهْل الْكِتَاب لَا سِيَّمَا وَزَيْد يُصَرِّح عَنْ نَفْسه بِأَنَّهُ لَمْ يَتَّبع أَحَدًا مِنْ أَهْل الْكِتَابَيْنِ.
عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور، حتى إذا نضجت، استخرجناها، فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير وهو مردفي في أيام الحر من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي، لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي أرى قومك قد شنفوك؟ قال: أما والله إن ذلك لتغير ثائرة كانت مني إليهم، ولكني أراهم على ضلالة، قال: فخرجت أبتغي هذا الدين، حتى قدمت على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت، حتى أقدم على أحبار أيلة، فوجدتهم يعبدون الله ولا يشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك تسأل عن دين ما نعلم أحدًا يعبد الله به، إلا شيخًا بالجزيرة، فخرجت حتى قدمت، إليه فأخبرته الذي خرجت له فقال: إن كل من رأيته في ضلالة إنك تسأل عن دين هو دين الله ودين ملائكته، وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج يدعو إليه ارجع إليه وصدقه، وأتبعه وآمن بما جاء به فرجعت فلم أحسن شيئًا بعد، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء
فقال: ما هذه؟ فقلنا هذه شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا فقال: إني لآكل ما ذبح لغير الله وكان صنمًا من نحاس يقال له أساف ونائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسه قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يقول، فمسحته، فقال رسول الله: ألم تنه؟ قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلمت صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه، وأنزل عليه الكتاب، ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي يوم القيامة أمة وحده. (1)
3 -
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي الِمْلَّة المُشْهُورَة فِي عِصْمَة الْأَنْبِيَاء قَبْل النبوة، إِنَّهَا كَالمُمْتَنِعِ لِأَنَّ النَّوَاهِي إِنَّمَا تَكُون بَعْد تَقْرِير الشَّرْع، وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى الصَّحِيح، فَعَلَى هَذَا فَالنَّوَاهِي إِذَا لَمْ تَكُنْ موجودة فَهِيَ مُعْتَبَرَة فِي حَقّه. وَالله أَعْلَمُ. فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْل الْآخَر فَالجوَاب عَنْ قَوْله:"ذَبَحْنَا شَاة عَلَى بَعْض الْأَنْصَاب" يَعْنِي الْحِجَارَة الَّتِي لَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ وَلَا معبودة، إِنَّمَا هِيَ مِنْ آلَات الْجَزَّار الَّتِي يَذْبَح عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النُّصُب فِي الْأَصْل حَجَر كَبِير، فَمِنْهَا مَا يَكُون عِنْدهمْ مِنْ جُمْلَة الْأَصْنَام فَيَذْبَحُونَ لَهُ وَعَلَى اِسْمه، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْبَد بَلْ يَكُون مِنْ آلَات الذَّبْح فَيَذْبَح الذَّابِح عَلَيْهِ لَا لِلصَّنَمِ، أَوْ كَانَ اِمْتِنَاع زَيْد مِنْهَا حَسْمًا لِلمادَّةِ (2).
* * *
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 238 من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب من أصل كتابه، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة؛ ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد به. قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ومن تأمل هذا الحديث عرف فضل زيد وتقدمه في الإسلام قبل الدعوة، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم.
(2)
فتح الباري 7/ 165: 164. بتصرف يسير.