الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أراد قرض الشعر لم يتأتَ له، ولم يتسهل، كما جعلناه أُمِّيًا لا يهتدي إلى الخط لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. (1)
الوجه الثاني: بعض الأحاديث الواردة في ذلك
.
1 -
ما رُوي عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ في بَعْضِ المُشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ:"هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِى سَبِيلِ الله مَا لَقِيتِ". (2)
2 -
وبما رُوي عَنِ المقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: قِيلَ لَهَا هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ بشيء مِنَ الشَّعْرِ قالتْ: كان يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ ابْنِ رَوَاحَة وَيَتَمَثَّلُ وَيَقُولُ: "وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ". (3)
3 -
ما روى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: لَكِنْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِنم انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتُقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الحارِثِ آخِذٌ بِزِمَامِهَا وَهُوَ يَقُولُ:"أَنَا النبي لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطَّلِبْ". (4)
الوجه الثالث: أقوال العلماء وتوجيهاتهم للأحاديث ودفع توهم التعاوض
.
سلك المفسرون والعلماء مسالك تصب كلها في مصب واحد، وهو الاتفاق وعدم التعارض بينها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينشد أو يتغنَّ بالشعر.
قال ابن العربي: وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ مَوْزُونِ الْكَلَامِ لَا يُعَدُّ شِعْرًا، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ مَا يَجْرِي عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَمَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِ.
ففي الحديث قَولهُ: "هَلْ أَنْتَ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ، وَفي سَبِيلِ الله مَا لَقِيت".
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ هَذَا شِعْرًا مَوْزُونًا إذَا كُسِرَتْ التَّاءُ مِنْ دَمِيَتْ وَلَقِيت، فَإِنْ سُكِّنَتْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى هَذه الصِّفَةِ تَكُونُ فَعُولٌ، وَلَا مَدْخَلَ لِفَعُولٍ فِي
(1) تفسير النسفى 4/ 13.
(2)
رواه البخاري (2648)، ومسلم (1796).
(3)
رواه الترمذي (2848)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (995)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (9063).
(4)
رواه البخاري (2709)، ومسلم (1776).
بَحْرِ السَّرِيعِ، وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا سَاكِنَةَ التَّاءِ أَوْ مُتَحَرِّكَةَ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ إشبَاعٍ. (1)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلًا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم، من ذلك أنه أنشد يومًا قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك من لم تزوده بالأخبار. (2)
قال ابن العربي: قَالَ الْأَخْفَشُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَرَوَى ابْنُ المظَفَّرِ عَنْ الْخَلِيلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: إنَّ مَا جَاءَ مِنْ السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا. (3) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي .. " وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ مَنْهُوكِ الرَّجَزِ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا يَكُونُ مَنْهُوكَ رَجَزٍ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْيَاءِ مِنْ قَوْلِك: لَا كَذِبْ، وَمنْ قَوْلِهِ: عَبْدُ المطَّلِبِ، وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ قَالَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا كَذِبٌ بِتَنْوِينِ الْبَاءِ مَرْفُوعَةً وَبِخَفْضِ الْبَاءِ مِنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَلَى الْإِضَافَةِ. (4)
وقال ابن حجر: وقد اختلف في جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر، وأنشده حاكيًا عن غيره، فالصحيح جوازه، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وصححه، والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر ابن رواحة:
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود، وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب" وأنه دل على جواز وقوع الكلام منه منظومًا من غير قصد إلى ذلك ولا يسمى ذلك شعرًا. (5)
قال القرطبي: فيه أربع مسائل:
الأولى: أخبر تعالى عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر وإن القرآن شعر بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر
(1) أحكام القرآن 6/ 472 وما بعدها بتصرف.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/ 48 وما بعدها.
(3)
العين للخليل بن أحمد 1/ 468 بتصرف.
(4)
أحكام القرآن لابن العربي 6/ 472 وما بعدها.
(5)
فتح الباري 10/ 42 بتصرف.
ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلًا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أنه أنشد يومًا قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
وأنشد يومًا وقد قيل له: مَنْ أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقًا
…
وجدت بها وإن لم تطيب طيبًا
وعن الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له.
الثانية: إصابته الوزن أحيانًا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزنه كقوله يوم حنين وغيره، والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، ويسقط الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا بالشعر ولا شاعر، أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر، ولا يسمى شاعرًا باتفاق العلماء، كما أن من خاط خيطًا لا يكون خياطًا.
قال الزجاج: معنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} وما علمناه أن يشعر، أي: ما جعلناه شاعرًا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئًا من الشعر قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا. (1)
قال ابن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) من عيب الكتابة، فلا لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر. (2)
قال ابن عبد البر: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض جراحاته:
هل أنت إلا أصبع دميت
…
وفي سبيل الله ما لقيت
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب."
وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة"
(1) الجامع لأحكام القرآن 15/ 48 وما بعدها، وقد اكتفينا بذكر مسألتين.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي 6/ 481.
ومثل هذا كثير عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنه، وهذا دليل على أن السجع كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكذلك الشعر كلام منظوم، فالحسن منه حسن وحكمة، والقبيح منه ومن المنثور غير جائز النطق به. (1)
وقال النووي: واتفقوا على أن الشعر لا يكون شعرًا إلا بالقصد، أما إذا جرى كلام موزون بغير قصد فلا يكون شعرًا، وعليه يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لأن الشعر حرام عليه صلى الله عليه وسلم. (2)
وقال في موضع آخر: واستدل بعض العلماء بهذا الحديث: "لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا"(3) على كراهة الشعر مطلقًا قليله وكثيره، وإن كان لا فحش فيه وتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم خذوا الشيطان، وقال العلماء كافة هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه، قالوا وهو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وهذا هو الصواب فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشده وأمر به حسان في هجاء المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها، وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة وفضلاء السلف ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه؛ وإنما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه (4).
وقال الطبري: وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} يقول تعالى ذكره: وما علمنا محمدًا صلى الله عليه وسلم الشعر وما ينبغي له أن يكون شاعرًا، كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل آخره أوله وأوله آخره، فقال له أبو بكر: إنه ليس هكذا فقال نبي الله: إني والله ما أنا
(1) التمهيد لابن عبد البر 6/ 490.
(2)
شرح مسلم للنووى 5/ 8.
(3)
البخاري (5820)، ومسلم (2257).
(4)
شرح مسلم للنووى 15/ 14.
بشاعر ولا ينبغي لي (1).
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} يقول تعالى ذكره: ما هو إلا ذكر يعني بقوله: {إِنْ هُوَ} أي: محمد إلا ذكر لكم أيها الناس، ذكركم الله بإرساله إياه إليكم ونبهكم به على حظكم:{وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} يقول: وهذا الذي جاءكم به محمد قرآن مبين؛ يقول: يبين لمن تدبره بعقل ولب أنه تنزيل من الله أنزله إلى محمد وأنه ليس بشعر ولا سجع كاهن. كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة: {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} قال: هذا القرآن. (2)
وقال أبو السعود: وقوله: "هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" فمن قبيل الاتفاقات الواردة من غير قصد إليها وعزم على ترتيبها. (3)
ونخلص من ذلك إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينشد شعرًا، ولا ينبغي له ذلك وإنه كان يحرز المعاني، ولا يقصد شعرًا، وعدم مطابقة كلامه قواعد وأوزان الشعر والرجز؛ فإن إقامة الشعر لا يَخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة، مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال؛ فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية. (4)
فمن هنا يتضح لنا عدم التعارض - وليس هناك تعارض - بين الآية الكريمة والأحاديث الواردة سالفًا، والتي قد دفع وجه وهم تعارضها، إذًا فلا تعارض على الإطلاق بينهما، والله أعلم.
(1) أخرجه ابن الجعد في المسند (2285)، والبخاري في الأدب المفرد (867)، والترمذي (2848)، والنسائي في الكبرى (10835) من طرق عن شريك، عن القدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في الأدب المفرد، وفي الصحيحة (2057).
(2)
تفسير الطبرى 10/ 461.
(3)
تفسير أبو السعود 7/ 178.
(4)
تفسير ابن عاشور 12/ 68.