الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم، وانقطاع تواترهم، ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق، وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام، وميز الحلال من الحرام، ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة؛ من كانت همته طلب الحق؛ فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينًا له، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} إلى قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] وأما في الدنيا؛ فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. (1)
ولأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينًا غديقة، فيسقي ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين المفجرة في نفسها، نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه؛ حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث أنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال. (2)
ثانيًا: وقد يقول المعترض: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال
؟
قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة. وقال:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ثم قد يكون سببًا للفساد (3).
وأيضًا الذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم
(1) تفسير الرازي (22/ 230).
(2)
تفسير الكشاف (3/ 139).
(3)
الرازي في تفسيره (22/ 230).
أقل شرًّا بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم، واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره وأما الأمم النائية عنه؛ فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته (1).
وثانيها: أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] لا يقال: أليس أنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وقال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه.
وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدع على المشركين، قال:"إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابًا" وقال في رواية حذيفة: "إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة".
ورابعها: قال عبد الرحمن بن زيد: {إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] يعني المؤمنين خاصة، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لما بينا أنه كان رحمة للكل، لو تدبروا في آيات الله وآيات رسوله، فأما من أعرض واستكبر؛ فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال:{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]. (2)
* * *
(1) جلاء الأفهام لابن القيم (181 - 289) بتصرف.
(2)
تفسير الرازي (230 - 231).