الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصلحة الناس تقتضي هذا، والواقع في شئونهم يشهد وإذا كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.
الوجه الثالث: الرد على قولهم أن سعر النبي صلى الله عليه وسلم مخالف للقرآن فما نفيه السعر عنه صلى الله عليه وسلم
-.
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه صلى الله عليه وسلم يفتري -أي يتعمد - الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني. بزعم أن له اتصالًا بالجن، وأن الجن يلقون إليه ما يلقون فيصدقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه، هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم:(به جنة). مجنون. كاهن. ساحر. مسحور. شاعر، كانوا يزعمون أن للشعراء قرناء من الجن تلقي! ليهم الشعر فزعموا أنه شاعر أي أن الجن تلقي إليه كما تلقى إلى الشعراء ولم يقصدوا أنه يقول الشعر. أو أن القرآن شعر.
إذ عرف هذا فالمشركون أرادوا بقولهم {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أن أمر النبوة كله سحر- وأن ذلك الشيء عن الشياطين استولوا عليه - بزعمهم - يلقون إليه القرآن ويأمرونه ويفهمونه فيصدقهم في ذلك كله ظانًا أنه إنما يتلقى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر في الحديث عروضها له صلى الله عليه وسلم لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون، ولا هي من قبلها في شيء من الأوصاف المذكورة إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث.
فإن قيل قد أطلق لي تلك الحالة أنها سحر، ففي الحديث عن عائشة "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم" والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
قلت: أما الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك فإنما سماها طبا كما مر في الحديث، وقد أنشد ابن فارس (1)
(1) مقاييس اللغة (3/ 408).
فإن كنت مطبوبًا فلا زالت هكذا وإن كنت مسحورًا فلا برأ السحر.
وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب أخص من السحر، وأن من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق عليها سحر ما يقال له "طب" وما لا يقال "طب" وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر النفس الساحر وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر فلا غرابة في خفاء تفسيره. وهذا يغني عما تقدم. (1)
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم فالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته وقد اعترض عليه كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنف بعضهم فيه مصنفًا مفردًا حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقًا لقول الكفار {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] وهذا كما قال فرعون لموسى عليه السلام {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101].
وقال قوم صالح له {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153].
وقال قوم شعيب له {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)} [الشعراء: 185].
قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم فإن هشامًا من أوثق الناس وأعلمهم ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن وقد رواه غير هشام عن عائشة رضي الله عنها.
(1) الأنوار الكاشفة (صـ 249).