الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنفع لهما وأجدى عليها، وأقرب شيء إلى الطبيعة البشرية في هذه الحالة أن يعبس الإنسان إذا صرفه عما هو بصدده كما فعل ابن أم مكتوم، ولكن ذلك كان على خلاف مراده تعالى فعاتبه عليه ونبهه إليه وبين له أن الصواب في ألا يعرض عن راغب في المعرفة مهما قل شأنه، وألا يتصدى لمعرض عن الهداية وإن كان عظيمًا، لأن مهمته التبليغ وما عليه من شيء في كفر الناس أو إيمانهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرم عبدالله بن أم مكتوم، فعن أنس رضي الله عنه في قوله:{عَبَسَ وَتَوَلَّى} : جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف فأعرض عنه، فأنزل الله {عَبَسَ وَتَوَلَّى} ، قال: فكان بعد ذلك يكرمه (1).
الوجه الثالث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة الكبار والرؤساء للإسلام
.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على دعوة الكبار والزعماء والقادة والرؤساء إلى دين الله عز وجل في إجابتهم للإسلام، ودخولهم فيه نصر لدين الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحزن على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6]، وقال تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]، وقال أيضًا:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فاطر: 8)، وقال تعالى:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النحل: 127).
قال ابن كثير: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} ، يقول تعالى مسليًا رسوله صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر: 8)، وقال:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النحل:
(1) الحافظ في الفتح (2/ 119)، وانظر: تفسير ابن كثير (14/ 247)، والدر المنثور (8/ 417)، وقال الشيخ مصطفى العدوي -حفظه الله-: ولكن بالجملة فالحديث يصح لأمور منها أن سياق الآيات يؤيده، والثاني أن الإجماع قد نقله غير واحد على أنها نزلت في ابن أم مكتوم، ومن الذين نقلوا الإجماع على ذلك القرطبي (في تفسيره)، والشوكاني (فتح القدير)، صديق حسن خان (فتح البيان)، عطية سالم (تتمة أضواء البيان)
…
(التسهيل لتأويل التنزيل جزء عم 1/ 82) للشيخ مصطفى العدوي.
127)، وقال:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]. باخع: أي مهلك نفسك بحزنك عليهم؛ ولهذا قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني: القرآن {أَسَفًا} يقول: لا تهلك نفسك أسفًا، قال قتادة: قَاتِل نَفْسَكَ غضبًا وحزنًا عليهم. وقال مجاهد: جزعًا. والمعنى متقارب، أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (1).
قال السعدي: ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} ، وقال:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، وهنا قال:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غمًا وأسفًا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله (2).
ومن الكبار الذين حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوتهم للإسلام عمه أبو طالب، فعن سَعِيد بْن المسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ الله بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الله بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَاأَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ المُقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
(1) تفسير ابن كثير (3/ 99).
(2)
تفسير السعدي (1/ 470).
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} (التوبة: 113)، وأَنْزَلَ الله تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُول الله- صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56] " (1).
وبلغ أيضًا من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة الملوك والرؤساء بأن قام ببعث الكتب والرسائل إليهم، ففي أواخر السنة السادسة من الهجرة حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام (2).
فعن أَنسٍ بن مالك رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإِلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (3).
واختار من أصحابه رسلًا لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، فقرأ النجاشي ووضعه بين عينيه، ونزل عن السرير وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب (4).
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل يدعوه فيه للإسلام، فكتب فيه "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} "(5).
(1) البخاري (3884)، مسلم (39)، واللفظ لمسلم.
(2)
وإنك لعلى خلق عظيم، صفي الرحمن المباركفوري (1/ 217).
(3)
مسلم (1774).
(4)
زاد المعاد (3/ 688)، وإنك لعلى خلق عظيم (1/ 217).
(5)
البخاري (2940)، مسلم (1773).