الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَقْضِيَ حَتَّى يَذْهَبَ وَأَيُّ حَالٍ صَارَ إِلَيْهِ فِيهَا سُكُونُ الطَّبِيعَةِ وَاجْتِمَاعُ الْعَقْلِ حَكَمَ وَإِنْ غَيَّرَهُ مَرَضٌ أَوْ حُزْنٌ أَوْ فَرَحٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ نُعَاسٌ أَوْ مَلَالَةٌ ترَكَ".
قَالَ الماوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيح يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَمِدَ بِنَظَرِهِ، الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ سَاكِنَ النَّفْسِ مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ لِيقْدِرَ عَلَى الاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَيَحْتَرِسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِغَضَبٍ أَوْ حَرْدٍ تَغَيَّرَ فِيهَا عَقْلُهُ وَخُلُقُهُ تَوَقَّفَ عَنِ الحكْمِ احْتِرَازًا مِنَ الزَلَلِ. (1)
الوجه الرابع: التوفيق بين الحديثين، وأقوال العلماء
.
قال ابن عبد البر: ومعنى هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أشار على الزبير بها فيه السعة للأنصاري فلما كان منه ما كان من الجفاء استوعب للزبير حقه في صريح الحكم (2).
وقد شرع الطحاوي: بعد ذكر الحديثين في التوفيق بينهما فقال: فَكَانَ جَوَابُنَا له في ذلك أَنَّ الذي رَوَيْنَاهُ عن أبي بَكْرَةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على غَيره من الحكَّامِ لِلْخَوْفِ عليهم فِيمَا يَنْقُلُهُمْ إلَيْهِ الْغَضَبُ من الْعَدْلِ في الْحُكْمِ إلَى خِلافِهِ وَالَّذِي في حديث الزُّبَيْرِ فَمُخَالِف لِذَلِكَ لأَنَّهُ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في تَوَلِّي الله تَعَالَى إيَّاهُ وَعِصْمَتِهِ له وَحِفْظِهِ عليه أُمُورَهُ بِخِلافِ الناس في مِثْلِ ذلك فَانْطَلَقَ ذلك لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْمَلَهُ ولم يَنْطَلِقْ ذلك لغَيْرِه فَنَهَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما حدثه أبو بَكْرَةَ عنه وَالله أَعْلَمُ. (3)
وقال القاري فإن قلت هل هذا النهي نهي تحريم أو كراهة؟ قلت: نهي تحريم عند أهل الظاهر وحمله العلماء على الكراهة حتى لو حكم في حال غضبه بالحق نفذ حكمه وهو مذهب الجمهور فإن قلت قد صح عنه أنه قد حكم في حالة غضبه كحكمه للزبير في شراج الحرة حين قال له الأنصاري أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "اسق يا زبير"
…
الحديث، وفي الصحيح أيضا في قصة عبد الله بن عمر حين طلق امرأته
(1) الحاوي الكبير 16/ 61.
(2)
التمهيد 17/ 408.
(3)
شرح مشكل الآثار 2/ 93.
وهي حائض فذكره عمر صلى الله عليه وسلم لرسول الله فتغيظ رسول الله، قلت: أجابوا عنه بأجوبة أحسنها: أنه كان معصومًا فلا يتطرق إليه احتمال ما يخشى من غيره في الحكم وغيره (1).
وقال الشوكاني: ولا يخفى أنه يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حالة الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف (2).
ونقل الحافظ ابن حجر عن الخطابي قوله: معناه أمره بالعادة المعروفة التي جرت بينهم في مقدار الشرب (3). ثم قال ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد أمره بالقصد والأمر الوسط مراعاة للجوار ويدل عليه رواية شعيب المذكورة ومثلها لمعمر في التفسير وهو ظاهر في أنه أمره أولا أن يسامح ببعض حقه على سبيل الصلح وبهذا ترجم البخاري في الصلح إذا أشار الإمام بالمصلحة فلما لم يرض الأنصاري بذلك استقصى الحكم وحكم به.
وحكى الخطابي أن فيه دليلًا على جواز فسخ الحاكم حكمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء فقدم الأسهل إيثارًا لحسن الجوار فلما جهل الخصم موضع حقه رجع عن حكمة الأول وحكم بالثاني ليكون ذلك أبلغ في زجره وتعقب بأنه لم يثبت الحكم أولا كما تقدم بيانه قال وقيل بل الحكم كان ما أمر به أولا فلما لم يقبل الخصم ذلك عاقبه بما حكم عليه به ثانيا على ما بدر منه وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال.
وقد وافق ابن الصباغ من الشافعية على هذا الأخير وفيه نظر وسياق طرق الحديث يأبى ذلك كما ترى لا سيما قوله واستوعى للزبير حقه في صريح الحكم وهي رواية شعيب في الصلح ومعمر في التفسير فمجموع الطرق دال على أنه أمر الزبير أولًا أن يترك بعض
(1) عمدة القاري 24/ 234.
(2)
نيل الأوطار 9/ 142.
(3)
انظر: معالم السنن 4/ 168.
حقه وثانيًا أن يستوفي جميع حقه قوله (1).
وقال أيضًا: لو خالف فحكم في حال الغضب صح أن صادف الحق مع الكراهة هذا قول الجمهور وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بشراج الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا.
قال ابن المنير: أدخل البخاري حديث أبي بكرة الدال على المنع ثم حديث أبي مسعود الدال على الجواز تنبيهًا منه على طريق الجمع بأن يجعل الجواز خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم لوجود العصمة في حقه والأمن من التعدي أو إن غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع وهو كما قيل في شهادة العدو إن كانت دنيوية رُدت وإن كانت دينية لم تُرد قاله ابن دقيق العيد وغيره (2).
وقال القرطبي: فقه الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: اسق يا زبير لقربه من الماء ثم أرسل الماء إلى جارك أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك، فحضه على المسامحة والتيسير فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك غضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال آن كان ابن عمتك بمد همزة أن المفتوحة على جهة الإنكار أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا عليه وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له، وعليه لا يقال: كيف حكم في حال غضبه وقد قال: " لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان"؟ فإنا نقول: لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام بدليل العقل الدال على صدقة فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام.
وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق ومنعه مالك واختلف فيه قول الشافعي وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز فإن اصطلحوا وإلا
(1) فتح الباري 5/ 39.
(2)
فتح الباري 13/ 138.
استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم (1).
وقال القاضي عياض: فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ولكنه صلى الله عليه وسلم ندب الزبير أولا إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط والصلح فلما لم يرض بذلك الآخر ولج وقال ما لا يجب استوفى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث: (باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى) حكم عليه بالحكم: وذكر في آخر الحديث: فاستوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه.
وقد جعل المسلمون هذا الحديث أصلا في قضيته، وفيه الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في كل ما فعله في حال غضبه ورضاه وأنه وإن نهى أن يقضى القاضي وهو غضبان فإنه في حكمه في حال الغضب والرضا سواء لكونه فيها معصومًا، وغضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا إنما كان لله تعالى لا لنفسه. (2)
وقد نقل القاضي عياض إجماع العلماء على أنه لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم خلف في القول في إبلاغ الشريعة والإعلام بما أخبر به عن ربه وما أوحاه إليه من وحيه لا على وجه العمد ولا على غير عمد ولا في حالي الرضا والسخط والصحة والمرض. (3)
وقال الصنعاني: النهي ظاهر في التحريم وحمله الجمهور على الكراهة
…
وصرح النووي بالكراهة في ذلك وإنما حملوه على الكراهة نظرًا إلى العلة المستنبطة لذلك وهي أنه لما رتب النهي على الغضب، والغضب بنفسه لا مناسبة فيه لمنع الحكم وإنما ذلك لما هو مظنة لحصوله وهو تشويش الفكر ومشغلة القلب عن استيفاء ما يجب من النظر وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن الصواب ولكنه غير مطرد مع كل غضب ومع كل إنسان فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل فلا كلام في تحريمه، وإن لم يفض إلى هذا الحد فأقل أحواله الكراهة وظاهر الحديث أنه لا فرق بين مراتب الغضب ولا بين أسبابه وخصه البغوي وإمام الحرمين بما إذا كان الغضب لغير الله وعلل بأن الغضب لله يؤمن
(1) تفسير القرطبي 5/ 255.
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 197.
(3)
المرجع السابق 2/ 109.