الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرًا" (1).
وروي هذا الحديث بألفاظ مختلفة كلها تصب في هذا المعنى.
وهذان الحديثان صفعة في وجوه هؤلاء المشككين في نزاهة النبي وعصمته صلى الله عليه وسلم ومعناهما لا يحتاج إلى تأويل لكنني أشير إلى طرف من كلام أهل العلم في توجيه هذه الأحاديث.
قال النووي: قال القاضي عياض: إِنَّ هَذَا الْعَزْم يُكْتَب سَيِّئَة وَلَيْسَتْ السَّيِّئَة الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْر خَوْف الله تَعَالَى وَالْإِنَابَة. لَكِنَّ نَفْس الْإِصْرَار وَالْعَزْم مَعْصِيَة فَتكْتَب مَعْصِيَة فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَة ثَانِيَة، فَإِنْ ترَكَهَا خَشْيَة للهِ تَعَالَى كُتِبَتْ حَسَنَة كَمَا فِي الْحَدِيث:"إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ" فَصَارَ تَرْكه لَهَا لِخَوْفِ اللهَ تَعَالَى وَمُجَاهَدَته نَفْسه الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانه هَوَاهُ حَسَنَة. فَأَمَّا الْهَمّ الَّذِي لَا يُكْتَب فَهِيَ الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تُوَطَّن النَّفْس عَلَيْهَا، وَلَا يَصْحَبهَا عَقْد وَلَا نِيَّة وَعَزْم (2).
وهذا هو الذي لو كانت صحت روايات هذه القصة لحملنا همّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه أي ما لم يعقد فيه عزم ولا نية وهذا هو الحاصل إذ لم يُلق النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه من فوق قمة الجبل هذا إن فرضنا أن القصة أو الرواية صحت، لكنها لم تصح أصلًا وهذا الذي بيناه في مقدمة الرد على هذه الشبهة، فهل الذي كتبت له حسنة يكون مُلاما أو يتهم في عصمته.
الوجه الرابع: ما هي عقوبة من يحاول الانتحار أو قتل نفسه
؟
فإن الله عز وجل لما خلق السلالة البشرية وحثهم على عمارة الأرض أرشدهم أيضًا إلى حفظ هذه السلالة وعدم التعرض لها بأي أذى لذلك نهى عن قتل النفس وإهلاكها فقال عز وجل: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال أيضًا: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} والآيات في القرآن كثيرة تدل على ضرورة الحفاظ على الذات البشرية ولذلك فإن لله تبارك وتعالى وضع عقوبات دنيوية وعقوبات أخروية من قتل نفسه أو قتل غيره فقال تعالى: {وَلَا
(1) مسلم (128).
(2)
شرح النووي على مسلم (1/ 429).
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء: 29 - 30]، وقال أيضًا:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وذكرهم الله أيضا لما سرد أوصاف عباده كما في سورة الفرقان: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] وغيرها من الآيات التي تزجر وتتوعد قاتل النفس.
وجاء في السنة أحاديث كثر أذكر منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا
…
" (1) فهذا الحديث وغيره يبين لنا عقوبة الذي يقتل نفسه في الشريعة الإسلامية لكنني أريد أن أربط الحكم بهذه الشبهة التي يفترونها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهل يصح أن نطلق عليها محاولة انتحار وهل تأخذ نفس الحكم أم لا؟
أولًا: يجب أن نعرف أن هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا على تقدير ثبوت القصة - كان قبل أن يبعث بالرسالة وقد سبق الكلام على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها وأنه منزه عن اقتراف هذه الأفعال.
ثانيًا: ينبغي أن نعرف أيضًا أن هذا الفعل على التسليم بصحته ولم يثبت كان قبل نزول الأحكام الشرعية والتي جاء فيها بيان حكم قتل النفس أو الانتحار، ومن ثم فلا يجوز إسقاط فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكييفه تكييفًا شرعيًا لأن الأحكام لم تكن شرعت حين إذ فمعلوم أن الذي يزني إذا كان محصنًا يرجم بالحجارة حتى الموت فإذا لم يكن هناك حكمًا في شأن الذي يزني فلا يكون عقاب عليه أو عقاب لذلك كان من أفرى الفرى أن تقول أن هذه محاولة انتحار إذ لم تكن معروفة آنذاك.
(1) البخاري (5778).