الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإليك تفصيل الحكم على بلاغات الزهري:
عن أحمد بن سنان الواسطي قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئًا، ويقول: هو بمنزلة الريح، ويقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه (1).
وقال الحافظ العلائي: اختلف في مراسيل الزهري لكن الأكثر على تضعيفها، قال أحمد بن أبي شريح: سمعت الشافعي يقول: يقولون نحابي ولوحابينا أحدًا لحابينا الزهري وإرسال الزهري ليس بشيء ذلك أن نجده يروي عن سليمان بن أرقم، وقال أبو قدامة عبيد الله بن سعيد: سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول: مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ وكلما قدر أن يسمي سمي وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه، وروى عباس الدوري عن يحيى بن معين قال: مراسيل الزهري ليست بشيء، وقال يعقوب بن سفيان: سمعت جعفر بن عبد الواحد الهاشمي يقول لأحمد بن صالح - يعني المصري - قال يحيى بن سعيد: مرسل الزهري شبه لا شيء (2).
قال الذهبي: مراسيل الزهري كالمعضل؛ لأنه يكون قد سقط منه اثنان، ولا يسوغ أن نظن به أنه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه، ولا عجز عن وصله، ولو أنه يقول: عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عَدَّ مرسل الزهري كمرسل
= (2/ 138: 137)، وإسحاق بن راهوية في مسنده (2/ 314)، واللالكائي في أصول الاعتقاد من طريقين (4/ 834: 833)، وابن حبان في صحيحه (1/ 219)، وأخرجها بنفس الإسناد في الثقات (1/ 51، 48)، والسيرة (1/ 63)، والطبري في تاريخه (1/ 535)، وأحمد في مسنده (6/ 233)، والثعلبي في تفسيره (14/ 156)، والدولابي في الذرية الطاهرة (1/ 26)، وابن الجوزي في المنتظم (1/ 245)، وابن عبد البر في اختصار المغازي (1/ 2)، وأبو نعيم في الدلائل (1/ 168).
2 -
رواه يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري، وأخرجها كل من: أبو عوانة الاسفرائيني في مسنده (1/ 103: 102)، وابن منده في الإيمان (681).
3 -
رواه عقيل بن خالد عن الزهري، وأخرجه كل من: ابن منده في الإيمان (685)، البخاري (6982).
وقد روى عنه هذه القصة بلفظ (فمما بلغنا) ثلاثة هم معمر بن راشد، وعقيل بن خالد، ويونس بن يزيد الأيلى كلهم عن الزهري ولفظه فيما بلغنا هي من كلام الزهري رحمه الله، وبلاغات الزهري واهية كما نص على ذلك جمع من العلماء.
(1)
الجرح والتعديل (1/ 246).
(2)
جامع التحصيل (1/ 91: 90).
سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ونحوهما، فإنه لم يَدْرِ ما يقول، نعم مرسله كمرسل قتادة ونحوه (1).
فهذا هو قول العلماء في بلاغات الزهري رحمه الله.
وهنا يبرز إشكال: طالما أن بلاغات الزهري واهية لا تصح كيف أخرج البخاري في صحيحه هذه الرواية بهذا اللفظ؟ .
والرد على الإشكال من وجهين:
الأول: بيان مكانة الإمام البخاري في العلل:
قال أحمد بن يسار المروزي محمد بن إسماعيل طلب العلم وجالس الناس ورحل في الحديث ومهر فيه وأبصر وكان حسن المعرفة حسن الحفظ وكان يتفقه.
وقال يوسف بن ريحان سمعت محمد بن إسماعيل يقول كان علي بن المديني يسألني عن شيوخ خراسان إلى أن قال: كل من أثنيت عليه فهو عندنا الرضى.
وقال الفربري سمعت محمد بن إسماعيل يقول ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي وربما كنت أغرب عليه وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري حدثني حامد بن أحمد قال ذكر لعلي بن المديني قول محمد بن إسماعيل ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني فقال ذروا قوله ما رأى مثل نفسه.
قال عمرو بن علي: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث، وقال أبو مصعب: محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر من ابن حنبل.
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من البخاري.
وقال الترمذي: لم أر في معنى العلل والرجال أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال حاشد بن عبد الله: رأيت محمد بن رافع وعمرو بن زرارة عند محمد بن إسماعيل يسألانه عن علل الحديث فلما قاما قالا لمن حضر: لا تخدعوا عن أبي عبد الله فإنه أفقه منا وأعلم وأبصر.
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 339).
قال العقيلي: لما ألف البخاري كتابه الصحيح عرضه علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم فامتحنوه وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة (1).
الثاني: توجيه إخراج البخاري للمعلق والبلاغ في كتابه:
وقد بيّن ذلك ابن حجر في الفصل الرابع من هدي الساري وهو مقدمة فتح الباري، فقال: الفصل الرابع، في بيان السبب في إيراده للأحاديث المعلقة (مرفوعة وموقوفة)، وشرح أحكام ذلك.
والمراد بالتعليق ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد وتارة يجزم به كقول وتارة لا يجزم به كيذكر، فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين: أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولًا، وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فالأول قد بينا السبب فيه في الفصل الذي قبل هذا وأنه يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره، فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار خشية التطويل، والثاني وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فإنه على صورتين، إما أن يورده بصيغة الجزم، وإما أن يورده بصيغة التمريض، فالصيغة الأولى يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق، أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصل إسناده إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مستوفى السياق ولم يهمله، بل أورده بصيغة التعليق طلبًا للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرة، في رأى أنه يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة: قال عثمان بن الهيثم حدثنا عوف حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(1) تهذيب التهذيب (7/ 47: 44).
وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة رمضان
…
الحديث بطوله، وأورده في مواضع أخرى منها في فضائل القرآن وفي ذكر إبليس ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وقد استعمل المصنف هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة قال فلان ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم وسيأتي لذلك أمثلة كثيرة في مواضعها، فقال في التاريخ: قال إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف فذكر حديثًا، ثم قال: حدثوني بهذا عن إبراهيم، ولكن ليس ذلك مطردًا في كل ما أورده بهذه الصيغة، لكن مع هذا الاحتمال لا يحمل حمل جميع ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلا عنهم، فقد صرح الخطيب وغيره بأن لفظ (قال) لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلق ذلك إلا فيما سمع، فاقتضى ذلك أن من لم يعرف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال.
وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحًا على شرط غيره وقد يكون حسنًا صالحًا للحجة، وقد يكون ضعيفًا لا من جهة قدح في رجاله، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده، قال الإسماعيلي: قد يصنع البخاري ذلك، إما لأنه سمعه من ذلك الشيخ بواسطة من يثق به عنه وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ، أو لأنه سمعه ممن ليس من شرط الكتاب، فنبه على ذلك الحديث بتسمية من حدث به لأعلى جهة التحديث به عنه.
قلت: والسبب فيه أنه أراد أن لا يسوقه مساق الأصل.
والصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلا من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح على ما سنبينه فأما ما هو صحيح فلم نجد فيه ما هو على شرطه إلا مواضع يسيره جدًّا ووجدناه لا يستعمل ذلك إلا حيث يورد ذلك الحديث المعلق بالمعنى كقوله في الطب ويذكر عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرقي بفاتحة الكتاب فإنه أسنده في موضع آخر من طريق عبيد الله بن الأخنس عن بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي فيهم لديغ فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب وفيه
قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبروه بذلك: "أن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"، فهذا كما ترى لما أورده بالمعنى لم يجزم به، إذ ليس في الموصول أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الرقية بفاتحة الكتاب، إنما فيه أنه لم ينههم عن فعلهم، فاستفيد ذلك من تقريره وأما مال لم يورده في موضع آخر مما أورده بهذه الصيغة، فمنه ما هو صحيح، إلا أنه ليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف فرد، إلا أن العمل على موافقته، ومنه ما هو ضعيف فرد لا جابر له.
ومثال الرابع وهو الضعيف الذي لا عاضد له وهو في الكتاب قليل جدًّا وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنف بالتضعيف بخلاف ما قبله فمن أمثلته قوله في كتاب الصلاة ويذكر عن أبي هريرة رفعه لا يتطوع الإمام في مكانه ولم يصح فيه فهذا حكم جميع ما في الكتاب من التعاليق المرفوعة بصيغتي الجزم والتمريض وهاتان الصيغتان قد نقل النووي إتفاق محققي المحدثين وغيرهم على اعتبارهما وأنه لا ينبغي الجزم بشيء ضعيف لأنَّها صيغة تقتضي صحته عن المضاف إليه فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صح قال وقد أهمل ذلك كثير من المصنفين من الفقهاء وغيرهم واشتد إنكار البيهقي على ما خالف ذلك وهو تساهل قبيح جدًّا من فاعله إذ يقول في الصحيح يذكر ويروي وفي الضعيف قال وروى وهذا قلب للمعاني وحيد عن الصواب قال وقد اعتنى البخاري رحمه الله باعتبار هاتين الصيغتين وإعطائهما حكمهما في صحيحه فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض وبعضه يجزم مراعيًا ما ذكرنا وهذا مشعر بتحريه وورعه وعلى هذا فيحمل قوله ما أدخلت في الجامع إلا ما صح أي مما سقت إسناده والله تعالى أعلم انتهى كلامه وقد تبين مما فصلنا به أقسام تعاليقه أنه لا يفتقر إلى هذا الحمل وأن جميع ما فيه صحيح باعتبار أنه كله مقبول ليس فيه ما يرد مطلقًا إلا النادر فهذا حكم المرفوعات وأما الموقوفات فإنه يجزم منها بما صح عنده ولو لم يكن على شرطه ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلا حيث يكون منجبرًا أما بمجيئه من وجه آخر هاما بشهرته عمن قاله وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين ومن تفاسيرهم لكثير من الآياتِ على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها
الخلاف بين الأئمة فحينئذ ينبغي أن يقال جميع ما يورد فيه إما أن يكون مما ترجم به أو مما ترجم له فالمقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة وهي التي ترجم لها والمذكور بالعرض والتبع الآثار الموقوفة والأحاديث المعلقة نعم والآيات المكرمة فجميع ذلك مترجم به إلا أخها إذا اعتبرت بعضها مع بعض واعتبرت أيضًا بالنسبة إلى الحديث يكون بعضها مع بعض منها مفسر ومنها مفسر فيكون بعضها كالمترجم له باعتبار ولكن المقصود بالذات هو الأصل فافهم هذا فإنه نحلص حسن يندفع به اعتراض كثير عما أورده المؤلف من هذا القبيل، والله الموفق.
وبعد هذا البيان نقول إن الإمام البخاري رحمه الله تعالى وهو أمير المؤمنين في الحديث كان إمامًا في العلل ولا يتصور أبدًا أن مثل هذه العلة تخفى عليه ودليل ذلك أنه روى الحديث في صحيحه في ستة مواضع من صحيحه كلها عن الزهري بدون هذه اللفظة، ولم يروى هذه اللفظة إلا في موضع واحد من صحيحه في كتاب التعبير (1) بلاغًا كما أشرنا في مقدمة الكلام، فهذا إن دل يدل أن البخاري إنما أوردها لبيان علتها كعادته في كثير من المواضع في صحيحه، وإليك نص كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذه اللفظة:
وقوله هنا: "فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا "هَذَا وَمَا بَعْده مِنْ زِيَادَة مَعْمَر عَلَى رِوَايَة عُقَيْل ويُونُس. (وأقول أنا أن هذه المقالة وقعت في كل من رواية عقيل مقرونًا مع معمر في رواية البخاري السابقة ووقعت في مسند أبي عوانة في رواية يونس بن يزيد (1/ 102/ 103) ووقعت كذلك عند ابن منده عن كليهما عن عقيل (2/ 673: 672)، وعن يونس (2/ 668) وكذلك الدولابي في الذرية الطاهرة (1/ 26) عن يونس).
يقول الحافظ ابن حجر: وصنيع المؤلف يوهم أنه دخل في رواية عقيل، وقد جرى على ذلك الحميدي في جمعه فساق الحديث إلى قوله "وفتر الوحي فترة حتى حزن" فساقه إلى آخره، والذي عندي - أي الحافظ - أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر فقد أخرج
(1) البخاري (6982).