الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث: تحريم التبني
.
ففي هذا يقول تعالى موطئًا قبل المقصود المعنوي أمرًا معروفًا حسيًا، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًا له، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له، فقال:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} ، كقوله:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (المجادلة: 2).
وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} : هذا هو المقصود بالنفي؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، وكان يقال له: زيد بن محمد، فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} كما قال في أثناء السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40) وقال هاهنا: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} يعني: تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنًا حقيقيًا، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان. (1)
وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} فيه لطيفة: وهو أن الكلام المعتبر على قسمين:
أحدهما: كلام يكون عن شيء كان فيقال.
(1) تفسير ابن كثير (6/ 376).
والثاني: كلام يقال فيكون كما قيل، والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون، والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئًا جعله الله كما قالوه، وكلاهما صادر عن قلب، والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار، أو نباح الكلب؛ لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه، والذي لا يكون عن قلب لا اعتماد عليه، والله تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها، فقول القائل: هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلامًا؛ فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير، واللطيفة هي أن الله تعالى قال هنا:{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} وقال في قوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة: 30) يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له، ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضًا في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل، أو عن شرع؛ فإذا قال فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو يكون عن شرع؛ بأن يكون ابنه شرعًا، وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدًا وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش، ونقول: إنه ابنه، وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به؛ لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق؛ لأن أباه مشهور ظاهر.
ووجه آخر فيه: وهو أنهم قالوا هذه زوجة الابن فتحرم، وقال الله تعالى هي لك حلال، وقولهم لا اعتبار به؛ فإنه بأفواههم كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه وقوله:{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} يؤكد قوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} يعني يجب اتباعه لكونه حقًّا، ولكونه هاديًا.
وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} فيه لطيفة: وهو أن الكلام الذي بالفم فحسب يشبه صوت البهائم الذي يوجد لا عن قلب، ثم إن الكلام الذي
بالقلب قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا؛ لأن من يقول شيئًا عن اعتقاد قد يكون مطابقًا فيكون حقًّا، وقد لا يكون فيكون باطلًا، فالقول الذي بالقلب وهو المعتبر من أقوالكم قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا؛ لأنه يتبع الوجود، وقول الله حق؛ لأنه يتبعه الوجود؛ فإنه يقول عما كان أو يقول فيكون؛ فإذن قول الله خير من أقوالكم التي عن قلوبكم، فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم؟ ! فإذن لا يجوز أن تأخذوا بقولكم الكاذب اللاغي وتتركوا قول الله الحق فمن يقول بأن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب لم يكن حسنًا يكون قد ترك قول الله الحق وأخذ بقول خرج عن الفم. (1)
وقال سعيد بن جبير: {يَقُولُ الْحَقَّ} أي العدل وقال قتادة: {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي الصراط المستقيم، وقوله عز وجل:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر الله تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل، والقسط والبر.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا لما نُسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنه مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه وقال عز وجل:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} احترازًا عن زوجة الدعي؛ فإنه ليس من الصلب؛ فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "حرموا من الرضاعة مما يحرم من النسب"(3).
(1) تفسير الرازي 12/ 325.
(2)
أخرجه البخاري (4504)، ومسلم (2425).
(3)
أخرجه البخاري (4821) من حديث أبي هريرة.
وقوله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا؛ فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم؛ أي عوضًا عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي: يا عم، يا عم، فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك فاحتملتها؛ فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنه في أيهم يكفلها فكل أدلى بحجة فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي ابنة عمي: وقال زيد: ابنة أخي، وقال جعفر بن أبي طالب: ابنة عمي وخالتها تحتي - يعني أسماء بنت عميس - فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال لعلي رضي الله عنه:"أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر رضي الله عنه: "أشبهت خلقي وخلقي"، وقال لزيد رضي الله عنه:"أنت أخونا ومولانا"(1). ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها: أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق وأرضى كلًا من المتنازعين وقال لزيد رضي الله عنه: "أنت أخونا ومولانا" كما قال تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} .
ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع؛ فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى آمرًا عباده أن يقولوا:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وعند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: قد فعلت"(2).
وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر"(3)، وقال تبارك وتعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 5) أي: وإنما الإثم على من تعمد الباطل؛ كما قال عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .
(1) أخرجه البخاري (2552).
(2)
أخرجه مسلم (126) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (6919).
ومن هنا نعلم أن زيدًا ليس ابنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة وقد نسخ التبني فلم يعد ابنًا بالتبني أيضًا.
قال الجزائري: إنه لما أبطل الله التبني وحرمه بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} تبع ذلك أن لا يرث المدعي ممن ادعاه، وأن لا تحرم مطلقته على من تبنَّاه وادعاه، وهكذا بطلت الأحكام التي كانت لازمة للتَّبنِّي، وكون هذا نزل به القرآن ليس من السهل على النفوس التي اعتادت هذه الأحكام في الجاهلية، وصدر الإِسلام أن تتقبلها، وتذعن لها بسهولة، فأراد الله تعالى أن يخرج ذلك لحيز الوجود، فألهم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخطب زينب لمولاه زيد، واستجابت زينب للخطبة فهمًا منها أنها مخطوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون أمّا للمؤمنين؛ ولما تبين لها بعد ليال أنها مخطوبة لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست كما فهمت، وهنا أخذتها الحمية وقالت: لن يكون هذا لن تتزوَّج شريفة مولى من موالى الناس ونصرها أخوها على ذلك - وهو عبد الله بن جحش. فنزلت هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ .. } (الأحزاب: 36)، فما كان منها إلا أن قبلت عن رِضَي الزواج من زيد، وتزوجها زيد وبحكم الطباع البشرية فإن زينب لم تخف شرفها على زيد، وأصبحت تترفع عليه الأمر الذي شعر معه زيد بعدم الفائدة من هذا الزواج، فأخذ يستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه ويستأذنه في طلاقها والرسول صلى الله عليه وسلم يأبى عليه ذلك علمًا منه أنه إذا طلقها سيزوجه الله بها إنهاءً لقضية جعل أحكام الدَّعي كأحكام الولد من الصُّلب، فكان يقول له:"اتق الله يا زيد لا تطلق بغير ضرورة ولا حاجة إلى الطلاق واصبر على ما تجده من امرأتك"، وهنا عاتب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ربُّه عز وجل إذ قال له:{وَإِذْ تَقُولُ} أي: اذكر إذ تقول {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي بنعمة الإِسلام، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بأن عتقته {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} وهو أمر زواجك منها، {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي: مظهره لا محالة من
ذلك {وَتَخْشَى النَّاسَ} أن يقولوا محمد تزوج امرأة ابنه زيد، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} . وقد أراد منك الزواج من زينب بعد طلاقها وانقضاء عدتها، هدمًا وقضاء على الأحكام التي جعلت الدَّعي كابن الصُّلب (1).
وهذا إمعان في إبطال هذا التبني الذي كان معروفًا في الجاهلية الأولى كما عرف في الجاهلية الحاضرة، حيث أمر الله تعالى إمام المسلمين وقدوتهم بذلك (2).
قال القشيري: وإنما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها؛ لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وقال:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} . (3)
وقال ابن الملقن: وكان في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بعد مولاه زيد ثلاث فوائد:
أحدها: لتستن أمته بذلك، كما قال تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية، وأصل الحرج: الضيق.
ثانيها: أن الله قد أحل ذلك لمن كان قبله من الرسل، ومثل ذلك قوله تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} الآية، والسُنَّة هي الطريقة التي سنها الله في الذين خلوا من قبل، أي: من السنن فيما أحل لهم. قاله أبو جعفر الطبري.
ثالثها - وهي أعظمها -: أن الله عز وجل أراد أن يقطع البنوة بين محمد، وزيد بن حارثة، إذ لم يكن محمد أبا أحد من رجالكم، وكان صلى الله عليه وسلم قد تبناه، فكان يدعى: زيد بن محمد، حتى نزل:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} كما أخرجه الشيخان (4).
وأما السؤال الثاني وهو عن سبب تحريم التبني فذلك الأقسط والعدل عند الله تعالى.
(1) أيسر التفاسير (4/ 273).
(2)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للدكتور عبد الله بن محمد الغنيمان.
(3)
الشفا (2/ 190).
(4)
البدر المنير لابن الملقن (7/ 474).
قال ابن كثير: وقوله عز وجل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة وأن هذا هو العدل والقسط والبر. (1)
وأما بيان العدل والقسط في تحريم التبني فمن وجوه:
الأول: أن الله تعالى هو الذي شرع ذلك وأخبر أنه الأقسط عنده، وهو العليم الخبير.
قال ابن عاشور: أنزل الله تعالى إبطال التبني، والحق في أحكام الله؛ لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق (2).
والأقسط أي: الأعدل فرفع الله حكم التبني، ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبًا، فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال فلان ابن فلان (3).
وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} وهم يقولون هذه زوجة الابن فتحرم، وقال الله تعالى هي لك حلال، وقولهم لا اعتبار به؛ فإنه بأفواههم كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه وقوله:{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} يؤكد قوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} يعني يجب اتباعه لكونه حقًّا ولكونه هاديًا (4).
الثاني: أنهم يرتبون على هذا القول الفاسد أحكام الحقيقة التي لا وجود لها، فكانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يارسول الله، إنا كنا ندعو سالمًا ابنا، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل علي وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا،
(1) تفسير ابن كثير الآية.
(2)
التحرير والتنوير سورة الأحزاب.
(3)
تفسير القرطبي سورة الأحزاب الآية.
(4)
تفسير الرازي الآية.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرُمي عليه" الحديث. (1) ووجود الأجنبي في البيت مفسدة لا يزيلها الدعوى بأنه ابن؛ لأنه قول بالأفواه لا حقيقة له.
الثالث: أن التبني بهذا الشكل مناف للغيرة، إذ كيف يسمح الرجل الغيور لرجل أجنبي يدخل على زوجته وابنته وحريمه بعد أن حرم الله ذلك.
الرابع: أن التبني على الوجه السالف الذكر فيه ظلم لأبناء الصلب، فيشترك معهم في التركة والميراث وهذا حقوق لا تصل إلا إلى أصحابها، فقد كانت العرب تعطي الولد المتبني:(الدّعي) حقوق الابن من النسب، حتى الميراث، وحرمة النسب؛ فأراد الله تعالى محو ذلك بالإسلام، حتى الميراث، وحرمة النسب، فأراد الله تعالى محو ذلك بالإسلام، حتى لا يعرف إلا النسب الصريح، ولذلك قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} . (2)
الخامس: أن المتبنى يمنع من الزواج ببنات من متبناه لو كان رجلًا وهن بنات والعكس مع أنهن له حلال، وشريعة التبني هذه تحرم عليه ذلك.
السادس: أن فيه ظلم للأب الحقيقي لو كان موجودًا.
السابع: أن قضية التبني خلاف المعقول فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة للمظاهر أمَّه حتى تكون أُمَّان، ولا يكون له ولد واحد ابن رجلين (3).
ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب، وعم الارتياب، وانقلب كثير من الحقائق أيّ انقلاب، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أيّ أبواب (4).
الثامن: والأولى أن يقال في تعليل النهي: سدًا لباب التشبه بالكفرة بالكلية (5).
التاسع: أن في تحريم التبني إرشاد - ضمني - للعباد إلى قول الحق وترك قول الباطل والزور (6).
(1) تفسير ابن كثير سورة الأحزاب الآية.
(2)
أيسر التفاسير لأسعد حمود سورة الأحزاب آية (36).
(3)
تفسير البغوي الآية.
(4)
نظم الدرر للبقاعي الآية.
(5)
تفسير الآلوسي الآية.
(6)
تفسير الشوكاني الآية.